Loading...

منشآت النفط اللبنانية المتمرّدة على خطط الاصلاح.. فوضى وغموض

 

لم يبدد تصريح وزير الطاقة والمياه الاسبق سيزار أبي خليل الاسئلة والغموض الذي يحيط بمنشآت النفط في لبنان عندما قال ان "لمنشآت النفط قانونها الخاص". فالتعرف الى هيكلية عملها، يندرج ضمن اطار "التابو"، وسبر أغوار ملفاتها يعد مهمة شبه مستحيلة، رغم تأكيد موظفين فيها ان "كل الامور شفافة في المنشآت منذ 30 عاماً".

لكن الشفافية التي يزعمها هؤلاء، تنتقص الى ألف باء الوضوح: لا عقود معلنة، ولا رقابة مسبقة من ديوان المحاسبة عليها، وهو أمر يشرّعه القانون بموجب المرسوم الاشتراعي الصادر في العام 1977.. عوضاً عن ذلك، تضاعفت الشبهات حولها مع استدعاء موظفين فيها الى القضاء اللبناني في شهر ايار/مايو أخيراً للاستماع اليهم في فضيحة الفيول المغشوش.

وتعد منشآت النفط في لبنان جهازاً حكومياً "يعمل وفق الأصول التجارية المرنة"، كما يعرف رئيس لجنة منشآت النفط سركيس حليس عنها في الموقع الالكتروني الرسمي، ويعود انشاءها الى أكثر من ثمانين عاماً حين أنشأتها دولتا العراق والسعودية في لبنان بهدف تصدير النفط الخام اليها، وتكريره وتصديره مرة أخرى عبر المتوسط انطلاقاً من مصبين نفطيين استراتيجيين لتصدير نفط العراق من طرابلس في الشمال عبر خط انابيب IPC، ونفط المملكة العربية السعودية من الزهراني في الجنوب عبر خط انانبيب "تابلاين".

خلال الحرب أقفلت المنشآت، وانقطع الامداد النفطي اليها، واقتصرت المنشآت على خزانات ضخمة لتخزين النفط، فيما لم تنفذ أي حكومة مبادرات إعادة تأهيل المصافي، علماً أن هناك دراسات أنجزت، وبينها دراسة في جامعة الكسليك في التسعينيات حول تكلفة إعادة التأهيل. وكي يعطي مجلس الوزراء مبرراً لوجودها في وقت لاحق في الثمانينيات، كلفها باستيراد المازوت المدعوم وتخزينه وتوزيعه. 

وتعتبر منشآت النفط في طرابلس الاكبر، فهي تحتوي على 23 خزان لتخزين مادتي "الفيول أويل"و"الغاز أويل"، وتمتد على مساحة 114875 متراً مربعاً، بدأت العمل  سنة 1940، وكانت تستقبل النفط من حقولها في كركوك العراقية عبر خط نقل بري، وتكرره، وتسوّقه بطاقة 21000 برميل يومياً. وانتقلت المصفاة إلى الدولة اللبنانية سنة 1973، عندما استُحدثت وزارة الصناعة والنفط في لبنان، فتولت الوزارة تشغيل وإدارة المصفاة التي لحقت بها اضراراً جراء الحرب اللبنانية ما أوقفها عن العمل.

أما منشآت النفط في الزهراني، فبدأ العمل فيها في أوائل عام 1950 ، وكانت تمتلكها شركة CATLEX . وكانت المصفاة تكرر 17500 برميلاً في اليوم، إلى أن تم إيقافها بشكل كامل في عام 1989 للأسباب ذاتها التي أدت إلى إيقاف مصفاة طرابلس. وتعمل المنشآت حالياً على أساس استيراد  الفيول اويل والغاز اويل، والبنزين 92 أوكتان، وتخزنها في خزانات المنشآت ليتم بعد ذلك توزيع هذه المشتقات في السوق المحلية من خلال شركات التوزيع.

في العام 1977، صدر مرسوم اشتراعي لضم المنشآت الى المديرية العامة للنفط، حمل الرقم 79 ونص على أن تنشأ في وزارة الصناعة والنفط - المديرية العامة للنفط، اجهزة مختصة لادارة منشآت النفط على الاراضي اللبنانية. سعى المرسوم الى تنظيم جميع القضايا المالية والاقتصادية والتنظيمية المتعلقة بها وبيع وشراء وتصدير واستيراد مشتقات النفط الخام. ويقول المرسوم في مادته الثالثة ان هذه الاجهزة "تعمل وفق الاصول المعمول بها في التجارة والصناعة وتخضع لرقابة ديوان المحاسبة المؤخرة".

رقابة مفقودة

هذا التنظيم، عملياً، أدخلها ضمن هيكلية وزارة الطاقة، لتخضع لرئاسة تسلسلية من قبل المديرية العامة للنفط التي توجه استخدامها، وتقوم بالتعيينات فيها، لكن وزراء الطاقة المتعاقبين منذ ذلك الوقت، لم يبادروا الى ضبطها ضمن اطار قانوني واضح، فبقيت "متفلتة من أي قيود قانونية"، لناحية التعيينات والتوظيفات ورواتب العاملين فيها، علماً أن هيكليتها الادارية تتألف من المدير العام وهو رئيس اللجنة، ومدير عام معاون لمنشآت النفط في طرابلس، وآخر في الزهراني.

ويقول مدير عام الاستثمار السابق في وزارة الطاقة غسان بيضون ان المنشآت "لا تخضع للرقابة ولا لقيود المحاسبة المالية"، علماً أن رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة حاول في العام 2008 ان يخضع حسابها للتدقيق، لكن المدقق الذي كلفته الحكومة "لم يجد حسابات ولا قيود تشكل لبنة اساسية للتدقيق"، كما يقول بيضون، فعاد المكلف أدراجه.

ويشرح: "لا موازنة للمنشآت، ولا حسابات رسمية، بل مجرد أوراق تشكل مادة اولية للمحاسبة، ذلك ان المستندات عادة ما تترجم قيوداً محاسبية، وتُعالج للخروج بالنتائج والحسابات النهائية". ويقول ان وزير الطاقة "يديرها ويعطي أوامر مباشرة، بينما يوقع على القرارات رئيس لجنة المنشآت"وهو سركيس حليس الذي يوقع بصفة مدير عام المنشآت مع انه لم يعين مديراً عاماً بموجب مرسوم حكومي، وهي ليس مؤسسة ولا ادارة حكومية، بل لجنة ادارة المنشآت تتبع المديرية العامة للنفط في وزارة الطاقة.

هنالك خلل واضح في كل ما يتعلق بالشفافية في ادارة منشآت النفط، حيث لا موازنة واضحة للمنشآت النفطية في الموازنة العامة للدولة في العام 2020، سوى ما تم ذكره حول تحويل وزارة الطاقة 8 مليار و100 مليون ليرة "مساھمة لمنشآت النفط في طرابلس والزھراني لإعادة بناء الخزانات".

وبالتالي يتم تمويل نفقاتها من الارباح التي تحققها من استيراد المحروقات. ومراقبة هذه النفقات غائبة علما ان هذه المنشآت يجب ان تكون خاضعةللمديرية العامة للنفط بحسب المادة الرابعة من المرسوم الاشتراعي رقم 79 الصادر عام 1977.

نشاط تجاري ومشاريع ضخمة

ويصطلح الضليعون في الادارة اللبنانية على تسمية تركيبتها الادارية بأنها "تركيبة هجينة أدت الى الفوضى"، في اشارة الى انها ليست مؤسسة عامة ولا ادارة رسمية ولا مؤسسة مستقلة، ورسم نشاطها شبهات حولها.فعلى الرغم من نفاذها من الحوكمة، تستخدم الخزانات فيها لتخزين النفط والمحروقات والمازوت المدعوم الذي تستورده الدولة، والفيول الذي يستخدم لتوليد الكهرباء والمستخدم في بعض الصناعات، كما تقوم المنشآت بنشاط تجاري، إذ تستأجر شركات خاصة تستورد النفط في لبنان خزانات في المنشآت، وتُدار العملية بعُرف تجاري "خارج الاصول المنصوص عليها في أصول قوانين المحاسبة العمومية". وتمتلك ادارتها حرية التصرّف "دون أي ضوابط"، وهو ما يرى فيه البعض "مخالفاً للمنطق والقانون".

وأرادها وزراء الطاقة في السنوات الاخيرة ساحة لمشاريع ضخمة، وهو ما لم يتردد وزير الطاقة والمياه الاسبق سيزار ابي خليل بإعلانه عن ان "منشآت النفط منخرطة في مشروع النفط وبمشروع الكهرباء"، و"من الجهتين وضعت يدها بهم ونجحت"، متحدثاً عن رؤية كبيرة كانت لديه "تحولها من مصب ومنشأة لبيع المازوت الى محطة تخزين كبرى وطاقة إستراتيجية ومخزون إستراتيجي طاقوي للبنان عبر مشروع مزارع التخزين الذي بدأنا به عام 2010 وقمنا بدراسات له وتأهلت الشركات وأطلقت المناقصة"قبل أن يتوقف بسبب الظروف الامنية في طرابلس في تلك الفترة".

ووضع ابي خليل مشروعين لمنشآت النفط في طرابلس، أولها "مشروع مزارع التخزين"لتخزين 430 ألف طن في المرحلة الاولى، والمرحلة الثانية ستأخذه الى مليون وستمئة ألف طن يكفي لحوالي سنة لانتاج الكهرباء وحوالي الستة أشهر لمشروع المزيج الطاقوي". أما المشروع الثاني، فهو مشروع إستيراد الغاز السائل وتحويله الى غاز طبيعي من أجل تشغيل معامل الكهرباء الساحلية عليه التي كانت الوزارة، وفق خطة الكهرباء التي وضعتها في العام 2010، وتعتزم تشغيلها على الغاز.

ونفذت الوزارة جزءاً من خطة الاستخدام الحكومي للمنشآت، إذ وقع وزير الطاقة والمياه الاسبق سيزار أبي خليل في 25 يناير (كانون الثاني) 2018، مع شركة "روسنفط"الروسية عقداً لتطوير منشآت تخزين النفط في طرابلس. وأعلن ابي خليل، ان العقد يسمح باعادة تطوير منشآت النفط في طرابلس وتأمين مدخول اضافي لها وهو سيتم على مراحل.

والعقد الذي لم تُكشف تفاصيله، تسربت منه معلومات بأنه يقضي باستثمار المنشأة كطاقة تخزين، وتأهيلها في مدة سنة ونصف بحسب العقد، كما يتيح للشركة الروسية المستثمرة أن تبني 14 خزاناً جديداً، تستوعب 482 ألف طن، مع زيادة تراكمية تصل إلى 32 مستوعباً جديداً، لتصبح القدرة الاستيعابية للمنشأة مليون برميل.

وعلى ضوء غموض العقد، خاض فريق "مهارات"، عبثاً، مغامرة البحث عن نسخة من العقد الذي وقعته وزارة الطاقة مع الشركة الروسية وملحقاته، إذ رفض الموظفون الاداريون في المديرية تزويد "مهارات"بنسخة عن العقد، بذريعة انه "عقد تجاري بين شركتين"، مع أنه موقع من قبل وزير الطاقة والمياه، في تجاوز واضح لقانون الوصول الى المعلومات.

وفي مايو/ايار 2018، أطلق الوزير سيزار أبي خليل دفتر الشروط لاستقدام بواخر الغاز المُسال LNG عبر منشآت النفط.

ولاحقاً، نفّذت وزيرة الطاقة السابقة ندى البستاني مشروع استيراد منشآت النفط لمادة البنزين بعد فقدانها من السوق إثر اضرابات نفذها موزعو المحروقات أواخر العام 2019، وسُلمت الكمية المتسوردة الى منشأة النفط في الزهراني، معلنة عن خطة بالاتفاق مع إدارة نفط الزهراني لإجراء المزيد من المناقصات في هذا القطاع.

كما وقعت البستان قرار تكليف منشآت النفط باستيراد الغاز المنزلي الى لبنان، وكلّفت مدير منشآت النفط إعادة إحياء المفاوضات مع مصر أو أي جهة أخرى بهدف تأمين كميات من الغاز الطبيعي الى مؤسسة كهرباء لبنان بهدف التخفيف من كلفة الإنتاج.

وتستفيد المنشآت من مرسوم انشائها الذي نص على ان تبقى صفقات شراء المشتقات النفطية خاضعة للرقابة المسبقة من قبل مراقب عقد النفقات لدى وزارة الطاقة والمياه مهما بلغت قيمتها. ويقول بيضون ان ادارة المنشآت تجري بعُرف تجاري، وتجري المناقصات بعيدة عن إدارة المناقصات مع ان المفروض أن تنضوي تحت موافقة المديرية العامة للنفط. ويوضح: "الوزير يكلف لاجراء المناقصة التي تتولى المنشآت ادارتها، وهي اللجنة التي لم يوضع نظاماً مالياً لتحديد اصول اجراء مناقصاتها، لا كيان ولا نصوص ترعى نشاطها باستثناء المرسوم الاشتراعي رقم 79 الصادر في العام 1977 الذي يمكّنها من اعتماد العُرف التجاري بنشاطها".

شبهات فساد مستمرة

هذا التفلّت القانوني، لم تعالجه الحكومات المتعاقبة، ولم يبادر لتعديله وزراء الطاقة المتعاقبون رغم اتساع مهام المنشآت والتخطيط لمشاريع ضخمة لها. ويرجع النائب السابق محمد قباني الذي شغل موقع رئيس لجنة الاشغال والطاقة النيابية عدم التنظيم والهيكلة الى "أن هناك من لا يريد تنظيم الامور بشكل يخفف من الفساد"، متحدثاً عن "مصالح متعلقة بهذه المرافق المتلازمة وهي النفط ومنشآت النفط وقطاع الكهرباء"، كي "تبقى سائبة من دون آلية واضحة لتنظيمها وضبطها كي يبقى الفساد فيها". ويقول ان "منشآت النفط هي الجسم الذي تمر عبر أمور كثيرة تحوم حولها شبهات لا يمكن ان تصبح نافذة ضمن الأطر الرسمية الفعلية، مثل التلزيمات والعقود، ويريد البعض ان تبقى من دون ضوابط كي يبقى الفساد قائماً".

وكان قباني اقترح ضمن اقتراح القانون الذي قدمه لانشاء "شركة البترول الوطنية"، ان تُلغى المنشآت وتصبح مع اصولها نواة للشركة الوطنية.

وإذ يشير قباني الى ان رئيس "التيار الوطني الحر"النائب جبران باسيل يرفض تعيين "هيئة ناظمة لقطاع الكهرباء"، مع ان إنشاء الهيئة "هو أساس الاصلاح في القطاع"، يرى ان هناك "رغبة في عدم تنظيم أي مرفق بما يحد من قدرة الفاسدين ومن وراءهم من انتاج اموال جراء الفساد".

وسط هذه الفوضى، بات ملحاً تنفيذ القانون بضمّها الى المديرية العامة للنفط، وتستحيل مديرية ضمن المديرية العامة للنفط وتتحدد صلاحياتها ضمن المديرية الام. وبضمّها، ستخضع حكماً لسلطة مدير العام النفط الذي سيتولى مهام اعطاء التوجيهات وممارسة دور الاشراف والرقابة عليها، ويصوب عملها.

ويفترض هذا التنظيم ان تكون كل الاعتمادات المالية المعنيّة بها، ضمن اعتمادات موازنة المالية العامة للحكومة، عبر موازنة وزارة الطاقة، لأن المديرية العامة للنفط هي جزء من موازنة الطاقة، ويكون لها بند في موازنة الدولة، فتوضع ضوابط للنشاط المالي لمديرية المنشآت التي ستكون حكماً جزءاً من المديرية العامة للنفط، إسوة بصندوق التعليم المهني مثلاً، وتخضع لقواعد اصول المحاسبة العمومية.

TAG : ,منشآت النفط ,نفط وغاز ,وزارة الطاقة والمياه