مع انتشار أنظمة الذكاء الاصطناعي الحديثة التي يسهل الوصول إليها، اتجه صحافيون كثر في العالم إلى الاستفادة من خصائصها والخدمات التي تقدمها في إنتاج المحتوى الإعلامي وكتابة التقارير والقصص الإخبارية بطريقة سلسة وسريعة. ومع تزايد الصراعات حول العالم، بات الذكاء الاصطناعي يؤدي دوراً متنامياً في رصد وتحليل الأحداث الحربية، ما يطرح تساؤلات حول مدى تأثيرها على دقة التغطيات الإعلامية وموضوعيتها. فبينما يسهم الذكاء الاصطناعي في تسريع نقل الأخبار وتحليل البيانات الضخمة، يثير أيضاً مخاوف بشأن التحيز الإعلامي وانتشار المعلومات المضللة.
وخلال الحرب الأخيرة في لبنان بين إسرائيل و"حزب الله" استخدم صحافيون الذكاء الاصطناعي ضمن عملهم اليومي في تغطية الأحداث، واستفادوا من تقنياته في كشف الصور المفبركة وتدقيق المعلومات وتسريع العمل، لكن هذه التجربة رغم أهميتها كانت فردية وغير مدفوعة بسياسات واضحة على مستوى المؤسسات الإعلامية، إلا فيما ندر، فيما تغيب لا توجد أطر قانونية واضحة لضبط هذه التقنيات الحديثة. ما يطرح ضرورة إيلاء هذا القطاع الأهمية القصوى للإستفادة من ايجابياته وتفادي سلبياته سواءً في أيام السلم أو في أوقات النزاعات.
شريك الصحافيين في الحرب
وقالت الصحافية آنا ماريا أوهان أنها اعتمدت على الذكاء الاصطناعي لتغطية الحرب في لبنان بشكل أساسي، موضحة أنها تستخدم الذكاء الصناعي منذ عام تقريباً، ودربت "تشات جي بي تي" وحملت عليه نماذج من أعمالها حتى أصبحت طريقة عمله تتطابق تماماً مع رغبتها، واستخدمت البرنامج الشهير لترجمة خلال تغطيتها الحرب، كما استخدمت تطبيق "Perplexity" للتحقق من المصادر الموثوقة.
وقالت أوهان أنها تنجز عمل يومين خلال 4 ساعات بفضل الذكاء الاصطناعي، مؤكدةً أنها تستخدمه كمساعد فقط، وإنما لا يمكنه أن ينافس المشاعر الإنسانية والإبداع البشري، حسب تعبيرها.
وروى الصحافي ومدقق المعلومات محمود غزيل أنه استخدم الذكاء الاصطناعي خلال الحرب للتحقق من صحة الصور والفيديوهات واكتشاف التعديلات فيها، خصوصاً أن انتشار المواد البصرية المفبركة ازداد خلال الحرب.
وأضيف غزيل، أنه استخدم الذكاء الاصطناعي لتوليد الصور عوضاً عن مصمم الغرافيك، إلى جانب استخدام الـ"Drone" لالتقاط صور من أماكن النزاع تظهر حجم الدمار، ما يعجز الصحافيين عن الوصول له بسبب الواقع الميداني الذي يعرض حياتهم للخطر.
وروى يوسف الأمين، وهو صحافي وشريك مؤسس في منصة "صواب" لتدقيق المعلومات، أنه مع ازدياد الحاجة إلى تنظيم العمل، انتقل إلى استخدام "أكثر منهجية" للذكاء الاصطناعي من خلال إنشاء "تشات بوت" يعتمد على "ChatGPT-4"، وأطلق عليه اسم "Verify Sawab". زود فريق "صواب" الـ"تشات بوت" بمعلومات دقيقة حول طبيعة عمل المنصة، وكيفية صياغة الأخبار، بالإضافة إلى تفاصيل متعلقة بمجال تدقيق المعلومات، مثل تحديد الأخبار القابلة للتدقيق من غيرها، ما سهل طريقة عملهم.
وقال الأمين: "رغم فوائده، يبقى الذكاء الاصطناعي بحاجة دائمة إلى المراجعة. نحن نعمل حالياً على إعداد وثيقة أخلاقية لاستخدامه، وسنقوم بتدريب الفريق داخلياً على استخدام البوت الخاص بنا بطريقة موحدة وأخلاقية. من خلال تجربتنا، ساعدنا Verify Sawab في تحسين الصياغة وإعادة هيكلة النصوص، حيث يعيد كتابة الأخبار بأسلوب يتماشى مع معايير صواب".
وأضاف الأمين "رغم قدراته، مازال الذكاء الاصطناعي محدوداً، فهو يفتقر للفهم العميق للسياق، وللتفكير النقدي، إضافة إلى التحديات في التعامل مع المعلومات المتضاربة، وقيوده في تحديث البيانات، إلى جانب تأثره بالتحيز الخوارزمي. لذلك، فهو ليس مدقق معلومات، بل يحتاج دوماً إلى إشراف بشري لضمان الدقة والمصداقية".
تجارب خجولة في غرف الأخبار
وبالتزامن مع زحف الذكاء الاصطناعي إلى غرف الأخبار الأجنبية، يبدو أن استخدامه في الصحافة اللبنانية مازال خجولاً، خصوصاً فيما يتعلق بتغطية الحروب، والتجارب هي في الغالب فردية وناتجة عن مبادرات شخصية من قبل الصحافيين.
وقالت الصحافية في قناة "الجديد" حليمة طبيعة أنها استخدمت تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل الأخبار والتأكد من صحة الصور خلال فترة الحرب، واعتمدت على محركات البحث العكسي مثل "بينغ" و"يندكس" وغوغل لينس"، وهي تقنيات قديمة غير مرتبطة بالذكاء الاصطناعي أصلاً، علماً أن طبيعة أنشأت صفحة خاصة للتحقق من الأخبار المفبركة هي "FAKE مش هيك"، إلا أن تجربتها كانت فردية وغير تابعة لقناة "الجديد". ورغم أنها قدمت فقرة "مش دقيق" ضمن نشرة الأخبار تتناول فيها أبرز الأخبار المفبركة المنتشرة وتعيد تصويبها، إلا أن الفقرة توقفت لاحقاً.
وأوضحت طبيعة أن المؤسسة لم تقدم أي تدريب يتعلق بالذكاء الاصطناعي، كما أن المؤسسة لا تعتمد عليه في صياغة أو صناعة الأخبار.
وحتى تجربة وسائل الإعلام البديلة مع الذكاء الاصطناعي تبقى خجولة. وقال الصحافي والمحرر في منصة "ميغافون" سمير سكيني أن "استخدام الذكاء الصناعي في غرفة الأخبار كان محدوداً وعبارة عن محاولات فردية"، إلا أنه أكد أن المنصة تستعد لإدراج الذكاء الإصطناعي في أعمالها في الأشهر القليلة القادمة، وهم اليوم في صدد اختيار المحرك الأنسب.
أما في منصة "درج"، فقالت رئيسة وحدة الإبداع هبة منذر، أن المنصة بدأت العام 2023 تجربة أدوات الذكاء الاصطناعي بهدف إزالة المهام الروتينية المرتبطة بتتبع وتيرة العمل، وإتاحة مساحة إبداعية أكبر للصحافيين. كما استخدمت هذه الأدوات لتسريع تقارير الأداء، ما ساعد على اتخاذ قرارات مدفوعة بالبيانات مكنت إدارة التحرير من تعديل أو تأكيد استراتيجياتها.
وأضافت منذر: "خلال فترة التجريب، قمنا بتحديد حدود استخدام الذكاء الاصطناعي وأكدنا التزامنا باستخدامه الأخلاقي. في غرفة الأخبار لدينا، نجري تجارب مع الذكاء الاصطناعي في مجالات متعددة. واستخدمناه في عدة مهام، لكننا لا نعتمد عليه بنسبة 100%، مازالت هناك حاجة إلى مراجعة بشرية، ومنها تحويل الكلام إلى نص، الترجمة، تحويل النص إلى كلام، البحث، التحليلات الكمية والنوعية، تصور البيانات، تحسين محركات البحث (SEO)، تحليلات الجمهور، وتدقيق الحقائق".
وشرحت منذر أن التحدي الأكبر الذي تواجهه المؤسسة هو التفاعل الصعب بين أدوات الذكاء الاصطناعي واللغة العربية، حيث لا توجد أداة واحدة تصل دقتها حتى إلى 90%. وهناك تحديات أخرى تشمل الأمان والخصوصية، بالإضافة إلى الدقة والتكلفة العالية.
مع الذكاء الاصطناعي الحرب باتت أكثر فتكاً
وكان الذكاء الاصطناعي من أهم الوسائل التي ساعدت الجيش الإسرائيلي في استهدافاته سواء في غزة او لبنان، أما الدور الأكبر الذي لعبه الذكاء الاصطناعي كان عبر استخدام المسيرات التي كان لها دور في رسم الخرائط وتحديد الأهداف، إضافة إلى أجهزة الاستشعار المتطورة في الدبابات والأسلحة والتي تسهل تحديد الأهداف أيضاً.
هذا الواقع المتطور بسرعة لم يواكبه لبنان بالشكل اللازم فاستخدام الذكاء الاصطناعي الإيجابي إعلامياً كان محدوداً كما ذكرنا وغير مبني على سياسات مؤسساتية واضحة، وإنما على جهود فردية، ما يؤكد على ضرورة وضع أطر تنظيمية وقانونية لضمان الاستخدام المسؤول لهذه التقنيات، خصوصاً في أوقات النزاعات والحروب. فبينما يسهم الذكاء الاصطناعي في تحسين دقة وسرعة التغطية الإخبارية، فإنه قد يشكل خطراً على مصداقية الأخبار وشفافيتها إذا لم يكن هناك رقابة وتنظيم فعال.
وأكد النائب مارك ضو، أن قوانين مكافحة الاخبار المزيفة، كالقوانين التي تلزم المؤسسات الإعلامية بالتحقق من صحة الأخبار التي يتم نشرها باستخدام الذكاء الاصطناعي مثلاً، موجودة، لكن عقوباتها ليست رادعة، إضافة إلى الإشكاليات التي تتضمنها تلك القوانين، خصوصاً "التصنيفات".
وأشار ضو إلى أن قانون الإعلام الذي يناقش حالياً في البرلمان اللبناني، يفترض أن يضمن حماية لحرية التعبير وينظم الأطر الإعلامية. وأكمل ضو: "هنالك مسؤولية تقع على عاتق المؤسسات الإعلامية، لأن الذكاء الاصطناعي تقنية. ومسؤولية نشر المعلومات المضللة تقع على عاتق الصحافي أو الناشر، وعليه فإن دور المؤسسات يكمن في وضع معايير أخلاقية لاستخدام الذكاء الاصطناعي كما تدريب الصحافيين على استخدامه، بالتوازي مع القوانين".
جرس إنذار
وفي ظل طوفان الذكاء الاصطناعي في عالم الإعلام، صدر التقرير السنوي لمعهد "رويترز" لدراسة الصحافة، ليقدم إجابة على بعض الأسئلة المتعلقة بتحولات الإعلام والتكنولوجيا، ويجتهد لتقديم التنبؤ والتحليل لتطورات المشهد الإعلامي العالمي للعام الجديد عبر استطلاع آراء أكثر من 300 قيادي بصناعة الإعلام من أكثر من 50 دولة وإقليماً بينهم عشرات رؤساء التحرير والرؤساء التنفيذيين والمديرين الإداريين ورؤساء الأقسام الرقمية في المؤسسات الإعلامية الرائدة حول العالم.
ودق التقرير جرس الإنذار أمام الصحافيين ومؤسسات الإعلام، خصوصأ مديري الأقسام الرقمية منها، محذراً من تطور التكنولوجيا بسرعة هائلة يعجز المتابعون عن استيعابها وفهمها، ويطالب المؤسسات الإخبارية ذات التفكير المستقبلي ببناء محتوى وتجارب فريدة لا يمكن استنتساخها وإعادة إنتاجها بسهولة من قبل الذكاء الصناعي الذي سيسيطر على إنتاج الأخبار والمحتوى بحلول 2026.
ووضع التقرير أمام الصحافيين وقادة مؤسسات الإعلام خطة النجاة عبر تطوير الأخبار المباشرة، والتحليل العميق، واعتماد التجارب البشرية المبنية على التواصل، وبالمقابل، لم يدع التقرير لمواجهة مع التكنولوجيا الجديدة، بل حث على استخدام التقنيات، بما فيها الذكاء الاصطناعي، لجعل عمل الصحافة والإعلام أكثر كفاءة في مناخ اقتصادي يزداد صعوبة، وفي الوقت ذاته دعا لاستخدام تلك التقنيات في نشر المحتوى وتوزيعه ليكون أكثر ملاءمة لجمهور مختلف ومتنوع، وتخصيص المحتوى لجمهور معين.
أما التخوف الأكبر، فهو من اجتياح قوة الذكاء الاصطناعي "التدميرية" مجال المعلومات الرقمية هذا العام مستفيدة من الاضطراب السياسي والاقتصادي حول العالم، ومن المرجح أن تكون الآثار على موثوقية المعلومات، واستمرارية عمل وسائل الإعلام الرئيسية عميقة في عام يشهد انتخابات حاسمة مقرر إجراؤها في أكثر من 40 دولة ديموقراطية، ويشهد كذلك استمرار الحروب في أوروبا والشرق الأوسط.
تم إعداد هذا التقرير ضمن مشروع "إصلاح الإعلام وتعزيز حرية التعبير في لبنان". موّل الاتحاد الأوروبي هذا التقرير، وتقع المسؤولية عن محتواه حصراً على عاتق "مؤسسة مهارات" وهو لا يعكس بالضرورة آراء الاتحاد الأوروبي. وتم نشر التقرير أيضًا على موقع المدن.