صحيح
لا يزال المعنيون بالقطاع المصرفي والمالي، وعموم اللبنانيين يترقبون القرار الذي ستُصدره مجموعة العمل الدولية FATF (هيئة دولية معنية بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب) حول إدراج لبنان على اللائحة الرمادية من عدمه، والمتوقع صدوره في أيلول الجاري.
ويحاول مصرف لبنان وحاكمه بالإنابة وسيم منصوري القيام بما يمكن القيام به لتجنّب هذا التصنيف، ومنع ادراج لبنان على اللائحة الرمادية من خلال بعض الإجراءات، ومنها زيارة لمنصوري قام بها بداية الشهر الحالي إلى بريطانيا التقى فيها وتشاور مع ممثلي المصارف الدولية المراسلة.
ويكثر الحديث في الأوساط الإقتصادية مؤخرًا عن إمكانية استمرار العلاقات بين المصارف اللبنانية والمصارف المراسلة مهما كانت نتيجة التصنيف.
فهل يمكن استمرار تعامل المصارف المُراسلة مع المصارف اللبنانية حتّى لو تم إدراج لبنان على اللائحة الرمادية؟
يعني إدراج دولة ما في هذه اللائحة أن لديها نقاط ضعف استراتيجية في أنظمتها لضبط ومنع العمليات المالية غير المشروعة مثل غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. ويؤدي هذا الى خفض تصنيف لبنان وبالتالي الى تعقيد العلاقات والمعاملات بين المصارف اللبنانية والمصارف المراسلة، والتشدد بالتدقيق بها، والتأثير بالتالي على تعاطي لبنان مع الأسواق المالية العالمية، وقد يؤثر على الاستيراد، وعلى التحويلات المالية الى لبنان، وعلى جذب الإستثمارات الأجنبية، وارتفاع تكلفة الإقتراض.
أكّد حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري في حديث لصحيفة "الجمهورية"، (نشرته الصحيفة في 10 أيلول 2024) أنّ اجتماعاته التي عقدها في لندن مع مسؤولي المصارف الدولية المُراسلة كانت بنّاءة ومباشرة وصريحة، وأنّ تلك المصارف ستواصل تعاملها مع لبنان بكل الظروف، ومهما تكن التصنيفات، انطلاقًا من الثقة بمصرف لبنان المركزي الذي يلتزم بالمعايير الدولية ويطبّق الإجراءات المطلوبة في الشفافية النقدية والامتثال.
ويضيف منصوري أنّ لبنان قدّم ردّه على التقرير الأخير لمجموعة "فاتف" (FATF) وينتظر قرارها. وتناولت الاجتماعات في لندن كافة الاحتمالات، بما فيها احتمال إدراج لبنان على القائمة الرمادية والنتائج التي ستترتب على هذا التصنيف في حال حصوله. وأفضت الاجتماعات إلى أنّ التحويلات المالية عبر البنوك المراسلة لن تتأثّر، وسيكون الجسم المصرفي اللبناني بمنأى عن تداعيات أي تصنيف.
بالنسبة للسؤال حول امكانية استمرار تعامل المصارف المُراسلة مع المصارف اللبنانية ومع البنك المركزي في حال تم إدراج لبنان على اللائحة الرمادية من قبل مجموعة العمل الدولية FATF يؤكد الكاتب والخبير الاقتصادي انطوان فرح أن الجواب هو نعم، فهو ليس أمرًا محتومًا بأن يتوقف التعامل مع مصارف أي دولة مدرجة على اللائحة الرمادية، ولا يوجد قانون دولي يُحتّم عليها ذلك. وهو أمر يخضع لقرار إدارات هذه المصارف المراسلة، فهي تُقيّم حجم مخاطر كل دولة وقطاعها المصرفي والمالي وتتعامل على هذا الأساس، فاذا اعتبرت أن المخاطر كبيرة وقد تنعكس على المصرف المُراسل نفسه ورأت أن ما تجنيه من إيرادات أقل من المجازفة بالمخاطر يمكن أن تُقرّر وقف التعاون. وقد لا يكون للمصارف المراسلة قرارًا جماعيًا، وليس هناك ما يفرض اتخاذ قرار مُوحد بالتعاون أو عدمه، ويمكن أن تُقرر مصارف معينة استمرار التعاون.
وهناك نماذج لدول كانت على اللائحة الرمادية مثل تركيا عام 2021 والإمارات العربية المتحدة عام 2022 وخرجت منها بعدما عملت على الإجراءات المطلوبة، وفي أثناء وجودها على اللائحة كانت المصارف المُراسلة تتعاون مع الجهاز المصرفي بكل دولة ولم يكن هناك مشكلة.
ويقول فرح: "انا اعتقد انه لن يكون لدينا مشكلة قطيعة مع المصارف المُراسلة خاصة بعد الاتصالات التي قام بها حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري. ومما يرجح استمرار التعاون هو أن المخاطر في الأصل موجودة منذ أن أعلنت الدولة اللبنانية التوقف عن دفع "اليوروبوندز" عام 2020 ومع ذلك استمر جزء من المصارف المراسلة بالتعاون مع لبنان".
وحول مخاطر إيقاف جميع المصارف المراسلة التعاون مع مصارف لبنان يؤكد فرح أن المخاطر عندها ستكون كبيرة، وتتمثل بعدم امكانية فتح اعتمادات (وبالتالي الاستيراد والتصدير)، و"سنصبح في قطيعة مع السوق المالي العالمي ولكن استبعد إمكانية حدوث ذلك".
ويشرح فرح أن تداعيات إدراج لبنان على اللائحة الرمادية "حتى مع استمرار التعاون مع المصارف المراسلة" ليست في اللائحة نفسها، بل الخوف هو من الوصول إلى اللائحة السوداء، وهذا ما حذرت منه المؤسسات المالية الدولية ومنها صندوق النقد الذين اعتبروا أن الدولة مشلولة ولا تقوم بأي إجراء حقيقي، بدليل طريقة تعاطيها مع الانهيار المالي والاقتصادي المستمر منذ خمس سنين، وبالتالي من المرجح أنها ستتعامل مع إدراج لبنان على اللائحة الرمادية بنفس الطريقة، وعندها سيكون لبنان مرشحًا لاحقًا للانزلاق الى اللائحة السوداء، وهنا نصبح أمام توقف فوري لتعاون المصارف المراسلة ونذهب لمشهد آخر لا يمكن فيه الاستيراد ولا التصدير ونصبح بحاجة للطلب من البنك الدولي "ليفتح لنا اعتماد لنحصل على الطحين لنأكل وهذه هي التداعيات الحقيقية التي نخشاها".
بدوره يؤكد أستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الاميركية الدكتور خليل جبارة أن امكانية استمرار التعاون بين المصارف اللبنانية والمصارف المراسلة ممكنة، وهنا يمكن العودة إلى تجربة المصارف المراسلة مع دول كانت قد أدرجت سابقًا على القائمة الرمادية مثل الإمارات وتركيا.
ويعتبر جبارة أن تشديد المصارف المراسلة إجراءاتها في التعامل مع لبنان ليس بجديد فهو شيء مستمر منذ سنوات خاصة بعدما ازدادت العقوبات الأميركية المالية على بعض الشخصيات السياسية ورجال الأعمال والمصارف الخاصة، بالإضافة إلى قضية توقف المصارف عن السداد، والتحقيقات الأوروبية بقضايا تتعلق بالحاكم السابق رياض سلامة وأفراد مقربين منه.
وفي التوصيات لحلول جدّية لتجنب شبح اللائحة الرمادية يقترح الدكتور جبارة النقاط التالية:
- ضرورة تطبيق القوانين المعمول بها في البلد لناحية مكافحة تبييض الأموال، حيث أن فكرة اللائحة الرمادية في الأساس قائمة على أن السلطات لا تلتزم تطبيق القوانين المعمول بها. كما وتفعيل هيئة التحقيق الخاصة المعنية بتطبيق قانون مكافحة تبييض الأموال وتقديم اقتراح بتعديل قانون انشائها تحديدًا لناحية جعلها مستقلة بشكل تام عن المصرف المركزي (الأمر غير الموجود اليوم).
- التضييق على الاقتصاد النقدي وتقليص حجمه، حيث أن البنك الدولي عام 2022 قدّر الاقتصاد النقدي في لبنان بحوالي 46% وهذا الرقم مستمر بالارتفاع. وتقليص حجم الاقتصاد النقدي بحاجة إلى سلسلة من الإجراءات منها اعادة تحفيز المصارف على استعمال البطاقات المصرفية ودفع رواتب الموظفين عبر المصارف وليس بشكل نقدي.
- ضرورة إعادة مصرف لبنان النظر بطريقة إدارة عملية تثبيت سعر الصرف الحالية والتي تتعلق بشراء دولارت من السوق، وهنا السؤال الأبرز حول مدى التدقيق بمصدر هذه الأموال.
- تشديد الرقابة على المحفظات الالكترونية التي تشكل تحدي كبير لناحية لجم الاقتصاد النقدي ومكافحة تبييض الأموال.
إذًا صحيح أنه يمكن للمصارف المُراسلة أن تستمر بالتعامل مع المصارف اللبنانية حتى لو تم إدراج لبنان على اللائحة الرمادية حيث لا قانون دولي يُحتّم ذلك، والأمر متروك لإدارة هذه المصارف لتقييم المخاطر وتحديد استمرار التعاون من عدمه.