Loading...

إصلاحات اقتصادية تحت رهن الوضع السياسي

 

لم يشهد لبنان أي تغيير جذري على مسار الإصلاح الاقتصادي بشكل عام. فبحسب تقرير البنك الدولي بعنوان "التطبيع مع الأزمة ليس طريقاً للاستقرار"، والذي وصفه حاكم مصرف لبنان حول "صيرفة" بـ "الغبي" بعد إطلالته عبر تلفزيون "الحدث" السعودي في 18 أيار 2023، تشير نتائجه إلى تراجع الناتج المحلي بنسبة 2.6% في عام 2022. ومع بلوغ الدين العام المئة مليار دولار، تشهد الليرة اللبنانية تدهورًا مستمرًا على الرغم من التدخلات والحلول المقترحة من مصرف لبنان لمحاولة السيطرة على سعر الصرف في السوق الموازية، بعدما خسرت 98% من قيمتها منذ سنة 2019. ومع توقع استمرار زيادة الاستهلاك الخاص ولو بمعدلات ضئيلة، في ظل التراجع في عجز الحساب الجاري، فإن توقعات تقرير المرصد الاقتصادي للبنان تشير إلى انكماش إجمالي للناتج المحلي بنسبة 0.5% إضافية في عام 2023، مما يؤثر على آفاق النمو الاقتصادي مع تحميل المودعين مسؤولية وعبء هذا التدهور. 

 

ومع غياب أي تدخل حكومي لإيجاد حلول عملية، يرتكز إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار على مناقشة السياسات الإصلاحية لإعادة بناء القطاع الاقتصادي الذي شهد تراجعًا على كافة المستويات، بدءًا من وقف تضخم وانهيار قيمة العملة اللبنانية، إعادة هيكلة القطاع المصرفي ضمن إطار قانوني وعملي، وصولاً إلى بناء خطة لتخفيض الدين العام وتحسين الوضع المعيشي الذي بات شبه مستحيل أمام المواطنين.

 


 

مسار مجموعة عمل إصلاحات الاقتصاد الكلي والمالي

أن دور خطة الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار ينقسم إلى جزأين: الجزء الأول ارتكز على خطة التعافي المباشر بعد انفجار مرفأ بيروت والذي دام سنة ونصف. أما الجزء الثاني فيركز على خطة الإصلاح وإعادة الإعمار: يأتي هذا التغيير نتيجة الاجتماعات والمشاورات حول إعادة توجيه أهداف واستراتيجيات خطة الإصلاح وإعادة الإعمار، من خلال خلق مجموعات عمل منها المعنية بإصلاحات الاقتصاد الكلي والمالي التي لم تشكل بعد، بحسب ما أشار فريق إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار، في حديث لمهارات نيوز، والتي لا يزال يتم تحديد أعضائها المحتملين ومنها: صندوق النقد الدولي، رئاسة الحكومة، نائب رئيس الوزراء، المجتمع المدني، أساتذة جامعات، الدول المعنية بالإصلاحات الاقتصادية اللبنانية، لجنة المال والموازنة، لجنة الإدارة والعدل بالتعاون مع خبراء في المجال الاقتصادي.

 

وفي هذا السياق، حددت خطة الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار الأولويات الأساسية للإصلاحات الاقتصادية بحسب اتفاقية صندوق النقد الدولي مع لبنان التي تهدف إلى إعادة بناء القطاع الإقتصادي في لبنان من خلال: 

- إعادة هيكلة القطاع المالي والمصرفي لاستعادة قدرة البنوك على استكمال عملها وقدرتها على تخصيص الموارد المالية (توحيد أسعار الصرف)

- تنفيذ الإصلاحات المالية من خلال إعادة الهيكلة المقترحة للدين العام الخارجي، القدرة على تحمل الديون وخلق مساحات للاستثمار في الإنفاق الاجتماعي وإعادة إعمار البنية التحتية 

- إصلاح مؤسسات الدولة ، بما فيها قطاع الطاقة ، لتقديم الخدمات الأساسية دون استنزاف الموارد العامة 

- تعزيز أطر الحوكمة ومكافحة الفساد لتعزيز المساءلة من خلال تحديث الإطار القانوني للبنك المركزي 

- خلق نظام نقدي  مالي يتسم بالمصداقية والشفافية.

 

بعد حوالي سنة على اتفاقية على مستوى الموظفين بين الحكومة اللبنانية وصندوق النقد الدولي  في 7 أبريل 2022، ومع تعهد الحكومة بالتنفيذ السريع لمجموعة شاملة من الإصلاحات الهيكلية لاستعادة الاستقرار المالي، محاربة الفساد من  خلال تعزيز الشفافية والمساءلة، ووضع مسار مستدام للمالية العامة، لا يزال مشهد الإصلاحات الاقتصادية وآليات التطبيق غير واضح بسبب غياب الإرادة السياسية للشروع في الإصلاحات الضرورية.

 

 

واقعية المشهد الإقتصادي 

ما يعيشه لبنان حاليًا، وفقًا لتصنيف البنك الدولي، يعتبر من أسوأ ثلاث أزمات اقتصادية مرت بالعالم بعد تشيلي وإسبانيا، بحيث بلغ معدل التضخم السنوي، لسنة 2022، %171.21 حسب دراسة مؤشر أسعار الإستهلاك الصادرة عن إدارة الإحصاء المركزي كما احتل لبنان المرتبة 150 من بين 180 دولة في مؤشر مدركات الفساد لعام 2022، وفقًا لمنظمة الشفافية الدولية، بعد 4 سنوات من تدهور اقتصادي وانفجار مرفأ بيروت وغياب لتطبيق الإصلاحات الاقتصادية في ظل أجواء اجتماعية وسياسية صعبة.

 

تتوزع المسؤوليات حول الأزمة والعجز الاقتصادي في لبنان بين الحكومة ومجلس النواب والمصرف المركزي. اذ تقع ضمن مسؤولية الحكومة وضع خطة النهوض الاقتصادي وتطبيقها اضافة الى دورها الرقابي المفترض على عمل مصرف لبنان عبر مفوضية الحكومة لدى المصرف المركزي، وتأتي مسؤولية مجلس النواب وضع السياسات المالية للعمل بالإصلاحات المطلوبة.

 

ولا يزال سيناريو دور الدولة اللبنانية في سد العجز الاقتصادي والدين العام، كحل وجزء أساسي من الإصلاحات، غير واقعي عمليًا وتقنيًا، وفقاً لما أشار إليه الخبير الإقتصادي مايك عازار خلال ندوة حول "أزمة لبنان المالية: الفرز بين السياسات العملية والوعود الوهمية". ففي ظل عجز الحكومة عن وضع أي خطة للبدء في التخفيف من الفجوة الاقتصادية الحالية، لا تزال الحلول المؤقتة المعتمدة غير كافية في ظل تراجع نسبة الاستيراد والتصدير وصولًا إلى انهيار العملة اللبنانية وفوضى سوق سعر الصرف: "كل دولار واحد من الدولة اللبنانية يوضع لسد هذا العجز هو ضريبة إضافية على المواطن في حين أنه ولو أصبحت الضريبة 100% على رواتب المواطنين، فإنها ليست كافية حاليًا لسدّ العجز الاقتصادي" قال عازار.

 

وفي حين ترتكز بعض أولويات الإصلاحات الاقتصادية حول إعادة هيكلة المصارف، أضحى استكمال عمل المصارف اللبنانية صعبًا خصوصًا في ظل غياب اية خطة لاعادة الهيكلة وفي ظل ترقيعات ارتجالية من الحكومة ومن مصرف لبنان وغياب تام لثقة المواطنين بسياسات المصارف الموجودة ورفض لفكرة عودة المودعين إلى معاملاتها المصرفية التي كانت قبل 2019 في حال تطبيق أي من الإصلاحات المطروحة على المستوى المحلي.

 

وفي سياق الضغط نحو إيجاد الحلول الأساسية التي تترافق مع خطة الإصلاح، عدد عازار أربع نقاط أساسية تكمن في توجيه الوضع الاقتصادي على المسار الإصلاحي الصحيح من خلال:

- توزيع عادل للخسائر خصوصًا أن الأحزاب السياسية قد مارست سياسات مالية محددة أدت إلى وقوع لبنان في هذه الخسارة الاقتصادية

- وجود هوية جديدة للمصارف اللبنانية لإعادة هيكلة وعمل المصارف

- التمييز بين المودعين الشرعيين وغير الشرعيين في ظل قضايا تبييض وتحويل الأموال 

- تمييز بين المودعين الكبار والصغار وتوزيع عادل للمسؤولية والواجبات في إطار إعادة الاستقرار الاقتصادي

 

انعدام الشفافية يليها غياب المحاسبة اللازمة

في ظل انتظار نشر ألفاريز ومارسال للتقرير الرسمي بشأن التدقيق المالي الجنائي الذي أجرته في مصرف لبنان  الذي كان من المقرر تسليمه في 27 أيلول 2022، لا يزال موضوع غياب الشفافية سببًا أساسيًا لغياب المحاسبة اللازمة كعنصر لتطبيق الإصلاحات المطروحة. فمع تفاقم مصاعب المواطن المالية، أضحت فوضى وتعددية أسعار الصرف مشكلة أساسية أودت باللبنانيين أمام عدة أسعار صرف للدولار، منها سعر الدولار الرسمي، سعر ثانٍ حدده المصرف المركزي عبر منصة "صيرفة"، والثالث الذي يتم التعامل به بالسوق الموازية والذي وصل اليوم إلى عتبة 100 ألف ليرة للدولار بالإضافة الى أسعار صرف مختلف تعتمد للضرائب المالية وأخرى لضريبة الدخل، الأمر الذي يعيق تطبيق الرقابة والشفافية المالية في المصارف كما المؤسسات الحكومية والخاصة.

 

إن موضوع توحيد سعر الصرف، له اعتبارات عديدة تكمن في إعادة هيكلة المصارف ووضع خطط مرتبطة  في ملفات مالية واقتصاد الدولة، السلفة النقدية  والسيولة المصرفية ومنها التي لا تزال عالقة من الناحية التشريعية أو التطبيقية، بحسب ما أشار اليه النائب ابراهيم منيمنة، في حديث لمهارات نيوز. فإن النقاش حول هذا الوضع المالي وحلحلة التدهور الاقتصادي ديموقراطي ولكن غير كاف لأسباب أولها سياسية، بالرغم من دور النواب في الضغط باتجاه اعتماد هذه الإصلاحات كورشة وطنية مستندة على الشفافية في التعاطي مع هذا الملف.

 

عقبات سياسية وقانونية

"لا يوجد أي تقدم تشريعي في المواضيع المتعلقة بالإصلاحات الاقتصادية لأسباب أولها سياسية"، أشار النائب ابراهيم منيمنة، في حديث لـ،"مهارات نيوز". فعملياً، وبعد أن تم إسقاط خطة حكومة حسان دياب التي وافق عليها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لا يزال غياب التشريعات وبطء تطبيق الخطط الإصلاحية اللازمة يهيمن على المشهد السياسي الحالي نتيجة تقاعس القوى السياسية التقليدية والسلطات النقدية عن إيجاد الحلول، غياب الجدية في النقاش البرلماني كما التأخير على مستوى تشريع وتنفيذ الإصلاحات. فالهرب وتفادي سيناريو توزيع خسائر الفجوة المالية تهيمن على مشهدية القوى السياسية التي تحاول التهرب عن وضع أو إقرار أي من القوانين المرتبطة بالإصلاحات، والتي قد تقود إلى حل جذري في السياق الاقتصادي. وفي هذا السياق، عدد منيمنة الثغرات التشريعية في القوانين الأساسية المرتبطة بإصلاحات الاقتصاد: 

- قانون السرية المصرفية: فبعد أن تم إقراره ثم رده من قبل رئاسة الجمهورية، وبعد مراجعات وتعديلات كثيرة ، اعتبر صندوق النقد أنه لا يزال "دون المستوى" المطلوب، بغض النظر عن أهميته برفع السرية عن أسماء محددة وتحميل مسؤولية وخسائر الانهيار الاقتصادي والاجتماعي. 

- مسودة قانون الكابيتال كونترول: وفقا لمنيمنة، أن هذا القانون والطريقة التي تم طرحه في مجلس النواب يتعارض مع هدف خطة الإصلاحات في تحديد الشفافية كأولوية في القطاع الاقتصادي والمصرفي، بحيث، بدا هذا القانون "كعفو عن الجرائم المرتكبة تجاه المودعين" وحصانة للمصارف تبعدهم عن الملاحقات القانونية.

- إعادة هيكلة المصارف: لليوم، لا يوجد مسودة كاملة لهذا القانون مما يشكل قيود على حركة الأموال والتعاملات المصرفية.

 

أما في إطار الرقابة المالية والإدارية، فإن غياب دور القضاء، الذي لا يزال مكبلاً وسط التدخلات السياسية، لا يساعد في تحقيق المحاسبة المنشودة.
 

 

إذا التطبيع كما وصفه التقرير لا يزال سيد الموقف ويلخص تعاطي الدولة اللبنانية مع موضوع الاصلاح الاقتصادي. ففي ظل غموض الآفاق لخطة شاملة، تخبط في تعاميم وسياسات مصرف لبنان والملاحقات القضائية على حاكم مصرف لبنان وتشبثه بموقعه وسياساته الارتجالية غير المربوطة بالإصلاحات الإقتصادية، وفي غياب حكومة فاعلة ومجلس نواب مشلول لغاية انتخاب رئيس للجمهورية، سيبقى الوصول الى اصلاح اقتصادي غير واقعي. 

 

TAG : ,الإصلاح الاقتصادي ,الدين العام ,الناتج المحلي ,السياسات الإصلاحية ,إصلاحات ,فساد ,العجز الاقتصادي ,مصرف لبنان ,البنك الدولي