Loading...

مؤشر مدركات الفساد 2022: الجهود التشريعية غير كافية لتحسين مرتبة لبنان

 

بشكل متواز مع الفساد وهدر المال العام والعديد من الأسباب التي أودت بلبنان إلى انهيار مالي بدأ في العام 2019،  ظهرت العديد من الجهود لمكافحة الفساد وتعزيز مبدأ الشفافية والمحاسبة، ففي السنوات الأخيرة أقرّت سلّة من القوانين الإصلاحية التي من المفترض أن تضع لبنان على السكة الصحيحة في إطار محاربة الفساد البنيوي في مؤسسات الدولة.

ولكن ورغم إقرار هذه القوانين، احتلّ لبنان المرتبة 150 من أصل 180 دولة من بين الدول الأكثر فسادا، كما حصد المرتبة الخامسة من بين الدول الأكثر فسادا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بحسب مؤشر مدركات الفساد(CPI) للعام 2022.

فما هي أسباب هذه المرتبة المتقدّمة ضمن الدول الأكثر فسادا رغم القوانين الإصلاحية الموجودة؟ 

 

مؤشر مدركات الفساد 2022

تعرّف منظمة الشفافية العالمية نفسها على أنها حركة عالميّة تعمل في أكثر من 100 دولة لانهاء الفساد عبر التركيز على القضايا التي تؤثر على حياة المواطنين ومحاسبة أصحاب السلطة من أجل الصالح العام من خلال حملات المناصرة والأبحاث وكشف الأنظمة والشبكات التي تساهم في انتشار الفساد، مطالبين بالمزيد من الشفافية والنزاهة بكل ما يعني الحياة العامة.

يستند مؤشر مدركات الفساد الذي تصدره المنظمة على مجموعات بيانات من 13 مصدر غير مرتبط بالمنظمة وهم البنك الدولي، المنتدى الاقتصادي العالمي، شركات استشارية خاصة ومعاهد مخصّصة في البحث في السياسات الاجتماعية والاستراتيجيات والاقتصاد.

ويضع كل مصدر علامة لكل بلد، لتقوم المنظمة بعرض العلامات من ثمّ القيام بعملية حسابية معيّنة لاحتساب المعدّل وإظهار العلامة النهائية التي حاز عليها كل بلد على سلم 100.

وقد احتلّ لبنان استنادا إلى المؤشر، المرتبة 150 من أصل 180 دولة بنتيجة 24/100 محافظا على نتيجة العام 2021(24/100) ومتراجعا بالمقارنة مع نتيجة سنة 2020 والتي بلغت 25/100.

إضافة إلى ذلك، احتلّ لبنان المرتبة الخامسة من بين الدول الأكثر فسادا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. 

 

وفي هذا الإطار، يقول رئيس المستشارين لمكافحة الفساد في المكتب الاقليمي لبرنامج الامم المتحدة الإنمائي(UNDP) أركان السبلاني في حديث لـ"مهارات نيوز" إنّ علامة لبنان لا زالت كما هي عليه مقارنة بالسنة الماضية وهذا لا يعني أن الفساد قد ازداد أو جهود مكافحته قد تراجعت. من ناحية أخرى تحسّنت مرتبة لبنان مقارنة بالدول، ولكن هذا أيضا لا يعني أنّ الفساد انحسر أو جهود مكافحة الفساد قد تقدّمت.

من هنا تكمن أهميّة معرفة كيفية عمل هذا المؤشر العالمي الشهير، فهو يقيس آراء وانطباعات رجال أعمال وخبراء، ولا يتعامل مع بيانات موضوعية عن عدد الإصلاحات وجودتها، والتي غالباً ما تحتاج إلى وقت كي تظهر آثارها على أرض الواقع. كما أن المؤشر يتأثر بشكل كبير بالمعلومات التي توفرها وسائل الإعلام وبحالة الاستقرار السياسي والمؤسساتي في كل دولة، لذلك فإن الجهود الإصلاحية في مجال مكافحة الفساد كتلك التي بُذلت في لبنان خلال السنوات القليلة الماضية تضمحل أمام المعطيات الأخرى، وهي غير كافية لتغيير الصور النمطية التي تكوّنت عن لبنان على مدى سنوات سابقة والتي تزيدها تأزيماً الأزمة العميقة الحالية.

ثانيا، المؤشر هو مركب يقوم على مؤشرات أخرى تم تجميعها من سنوات سابقة تتراوح من سنة إلى ٣ سنوات احيانا، أي ان المؤشر لا يعكس واقع السنة التي أُصدر فيها. 

لكن هذا الأمر لا يعني التقليل من أهمية المؤشر فهو ذو دلالة واضحة على تقصير متراكم وخلل بنيوي عميق، بل يعني ضرورة وضع نتائج المؤشر في سياقها الصحيح وقراءتها مع عدّة عوامل أخرى منها الإصلاحات التشريعية الهامة التي أنجزت والجهود التي يبذلها عدد من الأجهزة الرقابية ومنظمات المجتمع المدني رغم الصعوبات الجمة، بحسب ما أفاد به السبلاني.

 

 

سلّة من القوانين الإصلاحية تمّ إقرارها 

على مدى العديد من السنوات، وفي مقابل منظومة الفساد وهدر المال العام، كان العمل جاري على إقرار قوانين إصلاحية تضع البلد على سكّة مكافحة الفساد البنيوي والمؤسساتي، وعلى هذا الخط، تمّ إقرار العديد من القوانين الإصلاحية بضغط مستمرّ من المجتمع الدولي ومن المجتمع المدني والشعب اللبناني خصوصا بعد انتفاضة 17 تشرين الأول 2019.

ففي 30 حزيران 2021، أقرّت الجلسة التشريعية قانون الشراء العام  الذّي يشكّل خطوة مهمّة نحو حوكمة إدارة صرف المال العام في مناقصات الدولة والذي شكّل جزءاً من الثلاثية الإصلاحيّة التي تتضمّن أيضا استقلالية القضاء وإصلاح قطاع الكهرباء.

ويضع هذا القانون  حدّاً للفوضى الحاصلة في المناقصات والمشتريات بدءاً من غياب الشفافية والرقابة وصولاً إلى صيغ التراضي التي اعتمدت في القطاعات العامة.

وبحسب ما ينصّ عليه القانون، تمّ تشكيل هيئة ناظمة للشراء العام بدلاً من دائرة المناقصات، أولى مهامها الرصد والإشراف وتوحيد الأنظمة والأساليب والممارسات والمراجعة الادارية والقضائية، دفاعاً عن المال العام في قضايا الصفقات العمومية.

وتتمحور مهمة هذه الهيئة بأن تكون هيئة ناظمة إضافة إلى كونها هيئة رقابية ليكون بوسعها تنظيم كل شراء عام عبر إشرافها على إعداد دفاتر الشروط.

وقد نشرت مؤسسة مهارات العديد من التحقيقات المفصّلة حول مهام هيئة الشراء العام المندرجة ضمن القانون.

وكجزء من المنظومة القانونية الإصلاحية المترابطة، يبرز دور وأهمية قانون حق الوصول إلى المعلومات الذي أقرّ في 2 شباط 2017 ومرسومه التطبيقي في تموز 2020. 

ورغم المعوّقات التي واجهها هذا القانون والتي بيّنتها "مهارات نيوز" في تقارير سابقة، إلاّ أنّه شكّل خطوة مهمّة نحو الحوكمة وتعزيز الشفافية، إذ يلزم القانون كل المؤسسات العامّة  نشر كل المعلومات المتعلّقة بالقوانين والمراسيم والقرارات الإدارية كما ونشر الوثائق المتعلقة بأي عمليّة إنفاق تتجاوز خمسة ملايين ليرة لبنانية، وتقارير سنوية عن نشاطات الإدارات الملزمة تتضمن قطع حساباتها، بالإضافة إلى الكثير من المواد التي نصّ عليها القانون والتي تخدم المصلحة العامّة في إطار الإصلاح.

ومن ضمن سلّة الإجراءات الإصلاحية، ورغم البطئ التشريعي الذي يعاني منه لبنان، أقرّ مجلس الوزراء في 24 كانون الثاني 2022 تعيين الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والتي  يرتبط دورها باستكمال تطبيق عدة قوانين مثل حق الوصول الى المعلومات وحماية كاشفي الفساد والإثراء غير المشروع، وقانون الشراء العام.

 

الجهود التشريعية وحدها لا تكفي

على الرغم من هذه القوانين الإصلاحية لا يزال لبنان على تراجع ويحقق معدّلات منخفضة ضمن مؤشر مدركات الفساد.

 وفي حديث لـ"مهارات نيوز" يقول النائب السابق غسان خيبر لـ"مهارات نيوز" إنّ الجهود التشريعية وحدها لا تكفي لمكافحة الفساد، وتغيير مرتبة لبنان يتطلّب أكثر بكثير من إقرار قوانين إصلاحية على الرغم من أهميتها.

 

أمّا رئيس المستشارين لمكافحة الفساد في المكتب الإقليمي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) أركان السبلاني فيصف ما حصل في لبنان "بالثورة التشريعية"، وقد أتت هذه الثورة نتيجة لعمل الكثير من التحالفات والمعنيين في البرلمان والقطاع العام والمجتمع المدني والشركاء الدوليين، لكن هذه الثورة التشريعية لم تكتمل جميع عناصرها، بسبب التأخير الفاضح في إقرار قانون استقلالية القضاء، وبسبب بعض الضعف الذي وجد طريقه إلى نصوص أخرى تمّ إقرارها والتي لا يعتبرها السبلاني بالجودة المطلوبة كتلك المتعلقة باستعادة الأموال المتأتية عن الفساد و بمسألة رفع السرية المصرفية.

أما المشكلة الأساسية برأيه والتي تحول دون تقدّم لبنان على المؤشر، هي أن إقرار القوانين، على اهميتها، ليس إلاّ مكوّن واحد من مكوّنات الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، فهناك عدة إصلاحات أخرى مطلوبة لم يتم البدء بها، ومسألة التقدم على المؤشر هي أبعد وأكبر من ذلك، فهي مرتبطة بعدة عوامل اخرى ومن أهمها ما يلي:

أولا، واقع المؤسسات والإدارات العامّة المتردي وهجرة الكفاءات والانهيار المتسارع الذي تعاني منه بسبب غياب السياسات العامة الداعمة لنزاهة القطاع العام وفعاليته.

ثانيا، الفراغ الرئاسي والحكومي الذي يعاني منه لبنان، وضعف الثقة في الآليات الدستورية القائمة، وهو ما ينعكس على المؤشرات الدوليّة بالنظر إلى وضع لبنان.

ثالثا، عدم الالتزام بتنفيذ القوانين الإصلاحية، وإيجاد التبريرات لهذا الأمر، في ظلّ وهن الرقابة البرلمانية، ومحدودية قدرة السلطة القضائية على فرض القانون، وعدم اكتراث المواطنين والمواطنات لهذه الأمور في ظل الأزمة المعيشية، وحدّة الاستقطاب السياسي والطائفي في البلاد.

 

 

الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد: تفعيلها محور في مكافحة الفساد

يقول النائب السابق غسان مخيبر أنّه "يكفي النظر إلى الخطة الوطنية لمكافحة الفساد لرؤية أنّه لم ينفّذ منها سوى البعد التشريعي، كمثال على ذلك إلى اليوم لم تصدر المراسيم الداخلية للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وبالتالي لا تملك هذه الهيئة موظّفين، أمّا الموازنة التي رصدت لها فهي لا تكفي لبعض الأمور المكتبيّة".

ويقول السبلاني أنّه وبالرغم من أهميّة إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وكونها عنصر أساسي لمسار الإصلاح في لبنان، وبالرغم من الجهود الدولية لدعم هذه الهيئة، إلاّ أنها تعاني من العديد من التحديات في عملها.

التحدي الأول، هو تأخر مجلس شورى الدولة في الموافقة على نظامها الداخلي، وعدم اكتراث السلطة  التشريعية التي أقرت قانون الهيئة بهذا التأخير، ولا السلطة التنفيذية التي عيّنتها، وهذا يؤخر عمل الهيئة الفعلي ويؤخّر عملية التوظيف فيها. يفيد لبنان كثيرا أن يتمّ الالتفات إلى هذه المشكلة والمسارعة إلى جمع الأطراف وإيجاد الحلول لإنجاز هذه الخطوة.

التحدي الثاني، هو الموازنة المرصودة للهيئة والتي انخفضت قيمتها مع الانهيار المالي الحاصل، لذلك لا بد من زيادة موازنة الهيئة، واعتبار الأمر بمثابة استثمار في سمعة لبنان وفي قدرته على حماية المال العام، بمليون ليرة تُصرف بشكل جيد في دعم الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد تقي البلاد خسائر بالملايين. هذا علما أن الشركاء الدوليون رصدوا للهيئة موازنات هامة، ولكن هناك أمور لا يجب أن تُموّل إلا من الخزينة العامة تطبيقاً للقوانين اللبنانية وحفاظا على هيبة الهيئة وعلى السيادة الوطنية وأسس التعامل السليم في مسائل معقدة مثل مكافحة الفساد.

التحدي الثالث، توفير الحماية الأمنية لمبنى الهيئة وأعضائها لتمكّنهم من ممارسة عملهم بملاحقة الفاسدين وضمان أمن المعلومات والوثائق التي ستأتيهم، وهنا أيضا لا يبدو أن هناك اهتمام كاف بهذه المسألة.

 

إن القوانين الإصلاحية التي تم إقرارها في لبنان هي بداية مسار إصلاحي طويل، وقد أتت نتيجة لضغط الخبراء والإصلاحيين والمجتمع المدني والمجتمع الدولي إضافة إلى الضغط الشعبي الذي مارسه الشعب اللبناني، لكن هذه الجهود التشريعيّة وحدها لا تكفي لتغيير مرتبة لبنان، بل الإصلاح يحتاج إلى إصلاح بنيوي ومؤسسات فعّالة للمحاسبة القضائية والتأديبية.

وبانتظار قيام هذه المؤسسات يجب أن يتمّ متابعة العمل بوجه منظومة الفساد ودفنها لبناء دولة النزاهة، وقد تسارعت خطوات انهيار منظومة الفساد مع الضغوطات المحليّة والدولية على حدّ تعبير مخيبر.

 

TAG : ,مؤشر مدركات الفساد 2022 ,حق الوصول الى المعلومات ,الخطة الوطنية لمكافحة الفساد ,الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ,الإثراء غير المشروع ,الشراء العام ,الإصلاح ,الفساد