شهدت الحرب الأخيرة على لبنان تواجد العديد من الصحافيين الأجانب أو اللبنانيين العاملين لدى مؤسسات إعلامية عالمية. حاول هؤلاء أداء دورهم في نقل الصورة وتوثيق الأحداث بالرغم من الصعوبات والتحديات التي واجههوا سواءً على المستوى الأمني وتوسّع عمليات القصف، أو لناحية التخوين والحذر منهم، وعدم تقبلهم في بعض المناطق، خاصة إذا كانوا يعملون ضمن مؤسسات “غير مرغوب بها”.
يمكن الإستقاء من الحرب أن تواجد الصحافة الأجنبية أثناء تغطية النزاعات ضرورة ليس فقط لتغطية الجانب العسكري بل أيضًا لتوثيق الإعتداءات ونقل الجانب الإنساني للعالم وتظهير الجرائم المرتكبة ضد المدنيين، ومواجهة السرديات المتحيزة الصادرة بأغلبها عن الإعلام الغربي.
يوثق هذا المقال تجارب عدد من الصحافيين الأجانب الذين غطوا الحرب لمعرفة أبرز الصعوبات التي واجهتهم لمحاولة تفاديها في أي تجربة مماثلة.
دييغو سانشيز: لبنان الذي عرفته بدأ يتلاشى أمام عينيّ
يروي المصور الإسباني المستقل دييغو سانشيز عن رحلته في لبنان لتوثيق الذاكرة والمعاناة والسرد الإنساني بالقول: “أعيش هنا منذ عشر سنوات، بعد أن أمضيت خمس سنوات أعمل وأقيم في باكستان. كانت الحرب تحديًا ضخمًا، فبعد بدء التصعيد، كنت أذهب إلى الجنوب يوميًا تقريبًا. شعرت أن لا أحد يغطي معاناة المدنيين والتركيز كان فقط على مقاتلي حزب الله، لذلك دفعتني هذه القناعة إلى الغوص أعمق في تغطيتي. لكن بعدها تدهور الوضع بسرعة وكثرت الغارات الجوية، كان الأمر وكأنه كرة ثلج تكبر باستمرار. ولكن رسالتي دائمًا كانت إظهار كيف تؤثر الحروب على المدنيين وهم الضحايا الحقيقيين الذين لا صوت لهم. كانت تجربة قوية وصعبة غيّرتني إلى الأبد”.
“هناك لحظتان لن أنساهما أبدًا”. يقول سانشيز، الأولى كانت جنازة ثلاث فتيات صغيرات قُتلن في بلدة بليدا. والثانية كانت جنازة جماعية في سهل البقاع، حيث كانت العائلات تدفن أحبّاءها. كانت لحظات مفجعة.
وعن الصعوبات التي واجهها أثناء عمله يشرح سانشيز أن بالنسبة للمصورين، فإن المسار مختلف تمامًا عن الصحافيين، فالمصورون يعانون للحصول على الاعتراف بعملهم ولديهم حقوق وفرص أقل. ويضيف سانشيز أن الوضع كان فوضويًا لاسيما في الحصول على التصاريح، التنسيق، سوء الفهم. فبعض الصحافيون كانوا يتسللون إلى المناطق المحظورة بدون إذن، مما صعّب الأمور أكثر على الذين كانوا يحترمون القوانين. “كنا ننتظر لساعات وأحيانًا كنا نفوّت اللحظات الحاسمة بعد القصف. ومع ذلك، لم أكن أستطيع أن أشتكي كثيرًا، أنا أجنبي هنا ويجب عليّ احترام القوانين مهما كانت محبطة”.
يناشد سانشيز الجهات الفاعلة في لبنان بالقول: “دعونا نعمل، نحن نتبع كل القواعد، ولدينا تأمين وبطاقات صحافية، لسنا هنا لنشر التطرف أو لتشويه صورة أي بلد، نحن هنا لتوثيق الحقيقة، لصناعة ذاكرة، لإيصال شهادات الناس، لا أحد يريد أن يرى منزله مدمّرًا أو يفقد أسرته، ولكن هذه هي الحقيقة، وإن لم نوثقها، فكأنها لم تكن موجودة أبدًا”.
جيمي برينتيس: كان الأمر مؤلمًا لا توجد كلمة أدق
كانت تجربة مراسل ذا ناشيونال في بيروت البريطاني جيمي برينتيس قاسية على المستوى الانساني، فالمراسل العامل في لبنان منذ ثلاث سنوات والمقيم في بيروت كان يصبّ تركيزه على تغطية المواضيع الاقتصادية، المجتمعية، والثقافية، والأزمات السياسية الكبرى مثل انهيار القطاع المصرفي والجمود الطويل حول انتخاب رئيس جديد. ولكن بين ليلة وضحاها تغير كل شيء. سواءً لناحية تغطياته المهنية أو حياته الإنسانية.
“فجأة، شهدت بيروت تدفق مئات الآلاف من النازحين. كان الناس ينامون في الحدائق وعلى الأرصفة وفي أي مكان يجدونه. رغم أن المعارك كانت تدور أساسًا في الجنوب، إلا أن التوتر كان محسوسًا بشدة في بيروت، أتذكر ليلة استيقظت فيها على دوي انفجار ضخم قريب على بُعد 500 متر، امتلأت شقتي بالغبار والدخان، وأصبح صوت الطائرات المسيّرة والمقاتلات حاضرًا طوال الوقت، كان الشعور بالثقل النفسي واضحًا في كل مكان”.
وعن تجربته في تغطية الحرب يشرح برينتيس أن التجربة كانت مؤثرة للغاية، فبعد التصعيد الذي حدث في سبتمبر 2024، أصبح الدمار مهولًا، مدن قُصفت، معابد تاريخية دمرت، عائلات بأكملها شُردت. في أماكن مثل بعلبك، كان التصعيد يتكرر أسبوعًا بعد أسبوع، “التقينا بمدنيين رحبوا بنا بحرارة وللأسف، بعضهم قُتل لاحقًا، ما زلت أحتفظ برسالة نصية من مدير مستشفى التقيناه، كتب لي فيها: “الله معنا”، وبعد أسبوع قُتل. هذه اللحظات تبقى محفورة داخلك”.
يؤكد برينتيس وجود تحديات لوجستية أعاقت عملهم منها عملية الحصول على التصاريح، وكيفية التخطيط لسلوك طرق آمنة. ولكن السلطات اللبنانية سهّلت قضية التصاريح، والشعب أظهر صلابة وكرمًا استثنائيين حتى في أسوأ اللحظات. التحدي الحقيقي والأساسي يبقى بحسب برينتيس عاطفيًا، فالصحافة ليست فقط في نقل الأخبار، بل تتعلق بالإنسانية واحترام معاناة الآخرين أثناء سرد قصصهم. فأي صعوبات واجهناها كصحافيين كانت بسيطة مقارنة بما يمر به المدنيون اللبنانيون.
هاشم دالاتي: لا وصفة سحرية
يعتبر المخرج اللبناني ومنتج الأفلام الوثائقية هاشم دالاتي والذي يعمل منذ العام 2012 مع وكالات أجنبية ويملك خبرة ميدانية واسعة، أنه لا يوجد وصفة سحرية لحل مشكلة التعامل الحذر مع الصحافيين لاسيما الأجانب، وهذا ما يجب أن يعرفه الصحافيون جيدًا، فكل بيئة تختلف عن الأخرى، والصراع القائم بحد ذاته يخلق توترًا، فالتعامل في حالة الحرب مغاير طبعًا لحالة السلم.
ويشرح دالاتي أن التعامل مع بيئة متوترة لطالما عاشت صراعات قد يؤدي بطبيعة الحال الى تعامل متوتر وعصبي مع أي صحافي أجنبي. ويضيف دالاتي أن أيّ صحافي أجنبي نتيجة الظروف المذكورة كان يتم التعامل معه بحذر خوفًا من التجسس أو أن يكون الصحافي عميل مزدوج يهدف لإستقصاء معلومات عن أحزاب مثل حزب الله أو غيره. ما استلزم منهم كمنتجين على الأرض الحصول على نسخة عن “الباسبور” للصحافيين الأجانب الذين يعملون معهم وتقديمها للمخابرات والحصول على موافقة مسبقة منهم قبل الذهاب لأي مكان، تحسبًا لأيّة مشاكل قد تطرأ لاحقًا.
وبحسب دالاتي فإن المراسل الأجنبي دائمًا لديه مشكلة اللغة والمكان، لأنه غريب وبحاجة لشخص من البيئة نفسها، يعرف اللغة، المكان، والأشخاص لمساعدته. “على مدى سنين، كوّنت في عملي ثقة مع أهالي المناطق، وكوني ابن الشمال وابن طرابلس، فأغلبية المراسلين الذين كانوا يُغطّون مواجهات جبل محسن وباب التبّانة كانوا يطلبون مني المساعدة للدخول للمناطق والتصوير”.
كما هناك جانب مهم في المعادلة وفق دالاتي يتعلق بشخصية المراسل نفسه وديناميكيته وفاعليته على الأرض، ومدى معرفته واحترامه للبيئة العربية، واحترامه للقوانين والعادات. فبالنسبة لحزب الله وأحزاب مماثلة، هناك بروتوكولات يجب اتباعها للدخول إلى مناطق تواجدهم الساخنة، حتى المخيمات، فالجيش اللبناني يطلب وثائق معينة، مثل إذن تصوير وإذن للدخول. لذلك، يجب احترام القوانين وطبيعة المكان الذي يعملون فيه.
اذًا يتبين مما سبق تنوع التحديات التي عاناها الصحافيون الأجانب على المستوى النفسي واللوجستي، وعلى مستوى تقبلهم من قبل المواطنين في المناطق التي يتوجهون إليها، ما يستدعي إيجاد حلول من قبل الجهات المعنية تساهم في ضمان استمراريتهم في أداء دورهم وعكس حقيقية ما يجري في لبنان للعالم.
تم إعداد هذا التقرير ضمن مشروع “إصلاح الإعلام وتعزيز حرية التعبير في لبنان”. موّل الاتحاد الأوروبي هذا التقرير . وتقع المسؤولية عن محتواه حصرًا على عاتق ”مؤسسة مهارات“ وهو لا يعكس بالضرورة آراء الاتحاد الأوروبي. وتم نشر التقرير أيضًا على موقع "أنا هون".