قد لا يحتاج ملف السجون في لبنان إلى أزمات لترتسم لنا صورة قاتمة عن واقع السجون ومراكز التوقيف والنظارات، لكنها بالتأكيد "تزيد الطين بِلة". فقد وصلت نسبة الاكتظاظ في السجون اللبنانية إلى 330% خلال العدوان الإسرائيلي بحسب الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان ومصادر أمنية، وربما يبقى السجين موقوفاً لسنوات من دون محاكمة نتيجة تلكؤ الجهات المولجة حماية القانون.
السجون والعدوان الإسرائيلي
خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان وتأثر عدد من المناطق اللبنانية بالقصف الإسرائيلي، تم إقفال 6 سجون بحسب ما يشير مصدر متابع لملف السجون عبر جريدة "الأنباء" الإلكترونية، "ما رفع نسبة الاكتظاظ من 270 في المئة إلى 330 في المئة، لافتاً كذلك الى إقفال عدة نظارات خصوصاً في الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت، ما فرض نقل الموقوفين فيها إلى نظارات أخرى وزاد نسبة الاكتظاظ.
ويوضح المصدر أن المديرية العامة للسجون وضعت خطة طوارئ استباقية نفذتها خلال الأزمة، بهدف الحفاظ على أرواح الموقوفين وحمايتهم، وعندما تطورت الأوضاع الأمنية جنوباً، باشرت بنقل الموقوفين والسجناء الى سجون خارج بقعة القصف.
ومع تنامي نسبة الاكتظاظ في السجون والنظارات إثر نقل السجناء من السجون والنظارات المتضررة في المناطق التي طالها قصف العدو الإسرائيلي، شكل تعميم النائب العام لدى محكمة التمييز بالتكليف، القاضي جمال الحجار نقطة تحول للوصف الدقيق لمرجعية رسمية تحدثت عن تفاقم أزمة الاكتظاظ في السجون والنظارات ومسار الإجراءات القضائية.
أصدر الحجّار تعميماً حدد فيه الآلية لطلب تخلية السبيل للموقوفين في ظل الاكتظاظ الكبير، تفعيلاً لنص المادة 108 من قانون أصول المحاكمات الجزائية وتسريعاً لإجراءاتها بالتعاون مع الهيئة الوطنية لحقوق الانسان، والمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي. إذ تنص المادة 108 على أن "المدة القصوى للتوقيف الاحتياطي هي شهرين قابلة للتجديد لمرة واحدة بالنسبة للمتهمين بارتكاب الجنح، وستة أشهر قابلة للتجديد لمرة واحدة للمتهمين بالجنايات باستثناء جرائم القتل والمخدرات أو التوقيف امام المحقق العدلي حيث لا تحدد أي مهلة". كما تقول المادة أنه "بعد المهل المحددة يخلى سبيل الموقوف من قبل المرجع القضائي المختص سواء قاضي التحقيق أو الهيئة الاتهامية وفقا لمكان توقيفه، شرط ألا يكون لديه سوابق قضائية أو صدرت بحقه احكاما".
إلى ذلك، فإن تطبيق هذه المادة القانونية وتسريع إجراءاتها، كان سيتيح إخلاء سبيل أكثر من 1400 سجين، ممن قضى المدة الافتراضية للجرم الذي ارتكبه دون محاكمة.
الهيئة والحجار والتعميم ثالثهما!
يوضح رئيس الهيئة الوطنية لحقوق الانسان في لبنان الدكتور فادي جرجس، أنه أثناء الحرب الإسرائيلية المدمرة عقدت الهيئة اجتماعًا مع القاضي حجار، خلص إلى دمج الصلاحيات المتاحة للهيئة بتعميم للقضاة للمساعدة بإخلاء سبيل من تنطبق عليه المادة 108، مؤكداً في مقابلة مع جريدة "الأنباء" الإلكترونية أن حالة السجون طارئة خصوصاً بعيد نقل السجناء من مناطق متضررة إلى سجون أخرى.
واستناداً إلى قانون إنشاء الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان المتضمنة لجنة الوقاية من التعذيب الرقم 62/2016 تُعطى الهيئة صلاحيات واسعة في هذا الإطار متمثلة في الدخول إلى أماكن الاحتجاز في أي وقت، والحق في الوصول إلى المعلومات حول أي أمر مرتبط بالسجون والسجناء وملفاتهم والاطلاع على تفاصيل ذلك لتحديد كيفية تقديم المساعدة، بالإضافة إلى تقييم مدى احترام القوانين من قبل الدولة – الجهات الأمنية والقضائية، واحترام لبنان للمعاهدات الدولية.
بالتعاون مع المحامين الذين كلفتهم الهيئة، يؤكد جرجس أن هذا المسار أعطى نتيجة جيدة إنما المشكلة في القضاء، إذ أن عدد الملفات التي أنجزت منذ صدور التعميم تخطى 500 ملفاً لغاية منتصف كانون الأول 2024. ويرى المصدر المتابع لملف السجون أن الآلية بطيئة قليلاً، بحيث تم إخلاء سبيل 60 موقوفاً لتاريخه.
ويعيد جرجس الأسباب إلى الفوضى السائدة لإيجاد ملفات السجناء والموقوفين والتمكن من استكمال ملفاتهم إذ أنها إحدى التحديات التي تعيق أو تحول دون تطبيق المادة 108 لمن يمكن أن يستفيد منها، مشيراً إلى "أننا نحتاج إلى أسبوعين للتنقيب عن ملف موقوف أو سجين للتقدم بإخلاء السبيل وتقديمه للقاضي"، مشدداً على أن المكننة مسألة جد أساسية وهي الحل الأمثل لهذه المعضلة.
في السياق عينه، يعبّر عدد من المحامين عن معاناتهم في تكوين ملفات إخلاء السبيل فضلاً عن "وجود أخطاء أحياناً في إخلاء السبيل والملفات، ما يستدعي إعادتها وإطالة وقت وصول ملف الموقوف إلى خواتيمه"، وفق ما يشير المحامي فاروق المغربي في مقابلة مع جريدة "الأنباء" الإلكترونية.
وفي هذا الصدد، ومن المسائل الجد أساسية التي يقترحها المغربي، ضرورة مكننة المحاكم وربطها بالسجون ومراكز التوقيف.
النظام القضائي .. خلل كبير!
لا شك في أن الأرقام الصادرة عن مديرية السجون في وزارة العدل توّصف الواقع قبيل العدوان، وعليه يمكن الاستنتاج كيف فاقم نقل السجناء وضع الاكتظاظ، كما أن التفاوت في النسب في أعداد الموقوفين والمحكومين منهم في السجون ومراكز التوقيف يعكس أزمة حقيقية تنمُّ عن "خلل كبير في النظام القضائي"، وفق المغربي.
إن إحدى التحديات التي تواجه العمل القضائي عموماً وأزمة الاكتظاظ في السجون تحديداً، تتمثل في البطء في العمل الإجرائي القضائي، بحسب ما يشير الباحث والأكاديمي المتخصّص في العدالة الجنائية وحقوق الإنسان الدكتور عمر نشابة، معتبراً أن ما من اهتمام كافٍ في عمل القضاء من قبل السلطة المركزية وبالتالي فإنّ القضاء لا يصدر قراراته على نحو سريع ما يؤدي إلى بقاء عدد كبير من الموقوفين لمدة طويلة وتتخطى في كثير من الحالات المدة القانونية المحددة في القانون.
من جهته، يلفت المغربي إلى أنه من غير الجائز أن نجد موقوفاً في السجون اللبنانية لم تحدد له جلسة محكمة منذ سنتين في الوقت الذي من المفترض أن يُبت في قضيته خلال سنة. ومن بين التحديات كذلك، عدم قدرة قوى الأمن الداخلي على تأمين سَوق السجناء إلى المحاكم لأسباب لوجستية، مضيفاً: "من الممكن تسريع المحاكمات وتخفيف الاكتظاظ من خلال فتح محاكم، كتلك التي في السجون المركزية".
بالإضافة إلى كل ما سبق، يفيد نشابة بأنه في بعض الحالات ثمة حاجة إلى تأمين مبلغ من المال كغرامة أو رسوم ولا يملك الموقوف المال لتسديده، بحيث يُعمل على تأمين موارد مالية من قبل بعض الجمعيات ولكنها محدودة، كما أن الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان بحاجة إلى دعم أكبر.
وبالإضافة الى تحديات الكفالة المالية وتكوين الملف ونقل الموقوفين الى المحاكمة، يكشف المصدر المتابع عينه إلى مسألة مهمة حول تفعيل محكمة رومية لتسريع المحاكمات، أن جميع النقاط التي كانت تعترض عليها نقابة المحامين لدخول المحامين إلى محكمة سجن رومية وُجدت لها حلولاً، والان يُنتظر قرار نقابة المحامين في هذا الإطار، ليتمكن قضاة جنايات جبل لبنان من الدعوة الى جلسات محاكمة.
إلى ذلك، يُنتظر أن تنتهي المهلة التي حددها اتفاق وقف إطلاق النار لإعادة فتح السجون التي تم إقفالها خلال العدوان، وفق ما يكشف المصدر المتابع، ما يسهم في تقليص نسبة الاكتظاظ قليلاً، علماً أن "سجني النبطية وبعلبك جاهزين، أما السجون الأربعة المتبقية، ستبقى مغلقة لتأثرها بالقصف وحاجتها إلى صيانة"، على حد تعبيره.
بدائل التوقيف!
خلال البحث في المواد القانونية يتبين وجود سبل متعدّدة لحلّ أزمة الموقوفين ومنها المادة 111 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تنص على أنه "لقاضي التحقيق، مهما كان نوع الجرم، وبعد استطلاع رأي النيابة العامة، أن يستعيض عن توقيف المدعى عليه بوضعه تحت المراقبة القضائية". فالموقوفون "يقضون فترات طويلة جداً في السجون قبيل محاكمتهم وقبيل صدور الحكم، وبالتالي يجب قبل كل شيء احترام المادة 108 التي تحدد الفترة القصوى للتوقيف لجرائم محددة في القانون"، يقول نشابة.
ويربط نشابة بين إصلاح السجون وإصلاح النظام القضائي ككل، لاسيما أن قانون تنظيم السجون يعود إلى العام 1949. إلا أنه لا يمكن تحميل المسؤولية للقضاء والقوى الأمنية فقط، إذ يشدد نشابة على أن إحدى وظائف السجون هي إصلاح السلوك الجنائي لحماية المجتمع من المجرمين.
في المقابل، يرى المغربي أن المادة 108 كما قانون أصول المحاكمات الجزائية برمته بحاجة إلى إعادة تعديل، إضافة إلى ضرورة تأهيل النظام القضائي برمته.
في هذا الصدد، تقدم عضو كتلة اللقاء الديمقراطي النائب الدكتور بلال عبدالله باقتراح قانون معجل مكرر يرمي إلى تعديل المادة 108 من القانون رقم 328 تاريخ 2/8/2001 وتعديلاته (أصول المحاكمات الجزائية)، لناحية مدة التوقيف وموجبات التوقيف والمهل.
نقل الأحداث
ومن بين الحلول القصيرة المدى والمساهمة في حل مسألة الاكتظاظ، يفيد المصدر المتابع عينه، إلى قرب تسلم المديرية العامة للسجون مبنى مركز الوروار لتأهيل الأحداث، وذلك في غضون أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، على أن يُنقل حوالي 100 قاصر من سجن رومية إليه في الفصل الأول من السنة وبالتوازي تدريب العناصر على إدارة المركز، معتبراً أنها خطوة مهمة لإصلاح السجون لتخفيف الاكتظاظ والإستفادة من المساحة لغيرهم من الموقوفين.
الأرقام بين 82% و65%
ويكشف المصدر المتابع لملف السجون، أن عدد السجناء في السجون اللبنانية يصل إلى حوالي 6100 سجين، مشيراً إلى أن نسبة الموقوفين في 25 سجناً على امتداد الأراضي اللبنانية تبلغ 82 %.
إلى ذلك، بين أرقام وزارتي العدل والداخلية فوارق لناحية إحصاء الموقوفين. فنسبة هؤلاء لدى الداخلية وصل إلى 82%، فيما النسبة بحسب تقرير غير منشور يشير اليه المغربي أعده القاضي القيم على مديرية السجون في وزارة العدل رجا أبي نادر خلص إلى أن 65% من السجناء هم من غير المحكومين. أما التباين في الأرقام والنسبة المرتفعة التي تسجلها الداخلية قد يكون سببها احتساب السجين نفسه مرتين في ملفين منفصلين، بحيث يكون محاكماً في أحدهما وموقوفاً من دون محاكمة في الثاني.
حقوق الإنسان .. منتهكة!
لا شك في أن واقع السجون اللبنانية متهالك بسبب عناصر متداخلة، والاكتظاظ منافي لكل ما يتعلق بحقوق الإنسان وحقوق السجين وخاصة ما يعرف بمبادئ مانديلا التي تمثل النموذج المعترف به عالمياً لإدارة السجون في القرن 21، إذ تُحدد الحد الأدنى من ظروف السجن، وتوفر الإرشادات، وتضع معايير واضحة لموظفي السجون حول كيفية الحفاظ على السلامة والأمن والكرامة الإنسانية.
في السياق عينه، تشير رئيسة "جمعية نضال لأجل الإنسان" ريما صليبا في مقابلة مع جريدة "الأنباء" الإلكترونية إلى أن مصير الموقوفين في يد القضاء، وتقع عليهم مظلومية كبيرة بانتهاك الحق بالمحاكمات وعدم خضوعهم لجلسات تحقيق وتسوية أمورهم القانونية.
هذا الحق المكتسب، كما تصفه صليبا ناجم عن التلكؤ من قبل القضاء، إذ بمجرد أن يسوى المسار القانوني القضائي يعرف المذنب من غير المذنب، لاسيما أن بعض الموقوفين تخطى مدة توقيفه التي يحددها القانون وحتى مدة العقوبة. وتسأل: "من يرد اعتبار هؤلاء الناس، في ظل وجودهم في السجون ومراكز الاحتجاز والنظارات غير الإنسانية بكل ما للكلمة من معنى".
وتشدد على أن أبرز التداعيات هو الاكتظاظ ودمج المساجين الموقوفين فيما بينهم دون الفصل بين مرتكبي الجنح والجنايات، وهذا معيب ومرفوض ويرتب نتائج. كما يعاني بعض الموقوفين من عدم وجود محامٍ في بعض الحالات، إذ تعمل بعض الجمعيات على معالجة ذلك.
وفي تقريرها لعام 2024، حول المراجعة السنوية لحقوق الإنسان حول العالم، اعتبرت هيومن رايتس ووتش أن أوضاع السجون تدهورت في لبنان بشكل خطير وسط الأزمة الاقتصادية، إذ كان معظم المساجين، وبعضهم موقوف احتياطيا، قابعين في ظل اكتظاظ غير مسبوق، ورعاية صحية دون المستوى، وعدم توفير الغذاء بشكل منتظم، وتردي نوعية الطعام.
من جهته، يلفت رئيس الهيئة الوطنية لحقوق الانسان في لبنان فادي جرجس إلى أن أماكن الاحتجاز لا تتمتع بمعايير الاحترام لأي قانون أو قيم إنسانية من حيث الحقوق الأساسية للسجين بالطبابة والمساحة للفرد والضوء والتعرض إلى الشمس وغيرها ما يستدعي السعي الدؤوب إلى تفعيل آليات إنجاز الملفات ليتمكن المحامون من التقدم بطلبات إخلاء سبيل.
وفي السياق، فإن حصول السجين على الرعاية الصحية والوصول للعلاج والغذاء السليم حق مكرس من حقوق الإنسان، لكنه غير متوافر في بعض الأحيان في السجون اللبنانية. وهنا توضح صليبا أنه لولا بعض "الضغوط" وتظافر الجهود المشتركة بين قوى الأمن الداخلي والجمعيات التي تعنى بالسجون، لما كان حصول السجناء على الدواء أو توفير تكلفة العلاج في المستشفيات متاحاً.
في إطار التعاون تشكلت مجموعة العمل المعنية بالسجون وتضم متخصصين وجهات يهتمون بقضايا السجون وحقوق الإنسان يتعاونون فيما بينهم لإيجاد حلول لبعض المشكلات وأبرزها السجون وسبل تطبيق التعميم الصادر عن مدعي عام التمييز.
لا تعتبر المجموعة جهة رسمية، وتعقد اجتماعا دورياً كل شهر ويشارك فيه رئيس فرع السجون، والقاضي المشرف على مديرية السجون في وزارة العدل وضباط من بينهم طبيب في قوى الأمن الداخلي ومحامون ونقابة المحامين وممثلون عن الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان وقضاة وجمعيات وأطباء ومتخصصون وموظفون ومسؤولون في هيئات دولية ومحلية وحكومية وأهلية وإنسانية وحقوقية ودبلوماسية وغيرها.
بالمحصلة، لم تكن أزمة اكتظاظ السجون التي تفاقمت خلال الحرب على لبنان سوى نموذج عن الفوضى ومدى انتهاك حقوق السجناء في لبنان وهو ما يؤكد مرة جديدة الحاجة إلى خطة متكاملة لمعالجة ملف السجون أكثر من ضرورية. خطة تبدأ بالسجون نفسها وتمر بإصلاح النظام القضائي بالقوانين والتشريعات وبرامج التأهيل للسجناء وتدريب فريق عمل السجن، للوصول إلى مرحلة يتمكن فيها السجين بعد عودته إلى الحرية من الاندماج بالمجتمع وإكمال حياته. ولا يبقى كما هو الحال اليوم موقوف مع وقف المحاكمة!
يُنشر هذا التقرير في إطار البرنامج التدريبي حول "أسس ومبادئ التغطية الإعلامية لقضايا الأمن في لبنان" الذي نظمّته مؤسسة "مهارات" بدعم من مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن "DCAF". هذا المحتوى لا يعكس بالضرورة آراء مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن. وتم نشر التقرير في موقع الأنباء.