اسمها "ليرة"، وبأرزة تتوسطها، وهيكلية بصناعة محلية مئة بالمئة، أصبحت "ليرة" أول سيارة تعمل على الطاقة الشمسية في لبنان. وقد نجح المهندس هشام الحسامي بابتكار السيارة التي تساهم في التخفيف من حدة الانبعاثات الصادرة عن وسائل النقل العام، في محاولة للانتقال نحو مستقبل نظيف وأكثر استدامة، يقوم على جهود فردية معتمدة على الخيارات البديلة.
تعتبر مبادرة "ليرة" من الجهود والمبادرات الفردية الهادفة لمحاولة التكيّف مع التغير المناخي والذي تتأثر به جميع دول العالم ومنها بالطبع لبنان، الذي يعاني من نسبة تلوث كبيرة جدًا بسبب حركة المرور، والانتشار العشوائي للمولدات، والصناعات التي تُطلق الانبعاثات الملوثة في الهواء.
وبحسب دراسة أعدتها الجامعة الأميركية في بيروت (لم تنشر رسميًا بعد)، تبيّن أن عينات فحص الهواء في 3 مناطق في بيروت قد أظهرت أن المعدلات التي أوصت بها منظمة الصحة العالمية (5 ميكروجرام من الجسيمات الدقيقة لكل متر مكعب في المتوسط، 15 ملجم/م3 كحد أقصى) قد تم تجاوزها إلى حد كبير. ويتراوح هذا المعدل بين 20 و25 ملغم/م3 بالقرب من الجامعة الأميركية في بيروت، وبين 25 و30 ملغم/م3 في وسط المدينة ويصل إلى 60 ملغم/م3 في منطقة المقاصد.
فهل يمكن أن تساهم هذه المبادرات الفردية (مثل سيارة ليرة) في مواجهة تحديات المناخ في لبنان، خاصة مع غياب الإجراءات الحكومية الفعالة؟ وما هي الحلول المقترحة؟
"ليرة" صديقة للبيئة
تحاول المبادرات (الفردية والحكومية) في معظم دول العالم اللجوء إلى المصادر الطبيعية والبديلة لتوليد الطاقة لتقليص حجم الانبعاثات الضارة، وبالتالي فإن سيارة "ليرة" تسير في هذا الاتجاه، فما هي هذه السيارة وتفاصيلها؟
يشير المهندس هشام الحسامي في حديث خاص الى أنّ "ليرة" صديقة للبيئة مئة بالمئة، كونها لا تفرز أي انبعاثات حرارية. ويقول: "تعمل هذه السيارة على الطاقة الشمسية وتشحن نفسها بنفسها. وبغياب الشمس فانّ ليرة تتضمّن بطاريتين يمكن شحنهما من كهرباء المنزل في مدة نصف ساعة".
وبحسب الحسامي فانّ هذه الطاقة كفيلة لتسيير السّيارة 200 كيلومتر، مؤكدًا انّ "ليرة" ستسير على مختلف الطرقات اللبنانية بحلول العام المقبل، مفصلًا أبرز مواصفاتها وهي: "توفر المال على المواطن من جهة، كما انّها مزودة أيضًا بمواصفات تكنولوجية مثل "اندرويد" و"GPS"، وكاميرات".
وبعد "ليرة" يسعى الحسامي الذي يعمل في مجال الماكينات الصناعة منذ أكثر من 20 عامًا، الى تطوير "تاكسي ليرة"، وهي سيارة للنقل العام ستسير ضمن نطاق مدينة بيروت (من الأكثر تلوثا في لبنان)، حيث يسعى للحصول على الموافقة الرسمية لجعلها قيد الاستخدام، وهدفها تحسين خدمات النقل العام بأسعار مقبولة جدًا والتخفيف من انبعاثات الكربون. وللمزيد من المعلومات، نتعرف أكثر على سيارة "ليرة" من خلال الفيديو المرفق.
هل "ليرة" مطابقة للمواصفات؟
يمكن القول أن جمالية "ليرة" وفكرتها الجديدة، وربما تحولها الى سيارة "موضة" في الفترة المقبلة، ليس شرطًا لأن تكون مطابقة للمواصفات، فهذه المبادرات يجب أن تستوفي معايير عالمية واضحة، لتُحقق أهدافها المنشودة. فإلى أيّ حدّ يُمكن أن يُشكل نموذج سيارة "ليرة" مصدرًا للتخفيف من حدة الانبعاثات القاتلة، وهل التجربة تستحق التوقف عندها؟
يجيب رئيس حزب البيئة العالمي والخبير البيئي دكتور ضومط كامل في حديث خاص إلى جريدة "الأنباء" الإلكترونية عن هذا التساؤل، بالقول: "بطبيعة الحال هناك اليوم تقنيات حديثة يمكن الاستفادة منها والاستعانة بها، إن كان بشكل مبدئي لنضع على أساسها استراتيجيات جديدة لمحاربة التطرف المناخي، أو المساهمة في التخفيف من حدة الانبعاثات. وأول هذه التقنيات تعتمد على الطاقة البديلة ومنها الطاقة الشمسية التي تعتمدها سيارة "ليرة". ويتابع كامل: "أؤيد كل الاختراعات التي تصب في مصلحة حياة بيئية جديدة، لذا فلنبدأ العمل من أي زاوية كانت ولنسعى جميعنا الى تطويرها من أجل مستقبل واعد".
ولكن في المقابل، لا يُخفي كامل حقيقة وجود بعض الانتقادات وعلامات الاستفهام على "ليرة"، مؤكدًا أولا وأخيرًا انّ هذا النوع من الاختراعات يحتاج الى سنوات لدراسته، وبالتالي لا يمكن تقييمه اليوم بالشكل العلمي المُطلق. ويتابع: "نحتاج الى أن تدخل هذه السيارات حيز التنفيذ اولًا وبعدها يمكن إعادة تقييمها للتأكد ما إذا كانت هذه السيارة صديقة للبيئة أم لا، وما إذا كانت التجربة مستحقة أم لا".
وعليه يشير كامل الى انّ هذه السيارة بالمطلق يمكن اعتبارها ايجابية، ولكن حين يتم شحنها بواسطة الطاقة الشمسية، فهنا يمكن القول انها فعليا صديقة للبيئة، ولكن اذا كانت السيارة ستسير فقط على الكهرباء، فإنها بالتالي تحتاج الى شحن كهربائي وهذا يعني حكما المزيد من الانبعاثات، وبالتالي فانّها لا تحل مشكلة التلوث والتغير المناخي على المدى الطويل".
ويؤكد كامل انّ المطلوب اليوم هو البحث عن مصادر طاقة جديدة غير الوقود الأحفوري، مشيرا الى انّ العالم يستهلك يوميًا 105 مليون برميل من البترول. ويتابع: "ما يحصل اليوم على مستوى كبير من الخطورة، والمطلوب هو تجديد وتحديث كل أساليب استخدام الطاقة الشمسية والابتعاد عن استعمال أي أنواع من الطاقات الملوثة للبيئة".
وبحسب كامل: "كان لا بدّ للبنان وبيروت تحديدًا أن تبقى على الخطى الثابتة لشبكات المواصلات المدروسة، ولكن للاسف، اليوم وعلى سبيل المثال يدخل الى بيروت وحدها أكثر من خمسمئة ألف مركبة يوميًا تساهم بشكل دراماتيكي في التلوث البيئي، وهو ما يفتح النقاش أمام ضرورة وجود سيارات تستخدم الطاقة البديلة وتكون صديقة للبيئة".
خطر مأساوي لهواء لبنان على الصحة
يُعتبر لبنان دون أدنى شك من أقل البلدان استعدادًا لمواجهة تغير المناخ، فقد احتل بحسب تقرير صدر في العام 2024 عن البنك الدولي، المرتبة الثانية بعد اليمن في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والمركز 161 من بين 192 بلدًا على مستوى العالم في الجهوزية لمواجهة تغير المناخ.
يعود ذلك إلى محدودية قدرته على التكيف، والتي تفاقمت بسبب الأزمة الاقتصادية والمالية الحالية. وقد أضعفت هذه الأزمة بشكل حاد رأس المال البشري، والطبيعي، والمادي للبنان. كما ألحقت أضرارًا جسيمة بالمالية العامة، وأعاقت القدرة على الاستثمار في تدابير التخفيف ومنع تدهور الخدمات العامة في قطاعات مثل الطاقة، وإدارة النفايات الصلبة، ومعالجة مياه الصرف الصحي، وأدى ذلك إلى تسريع وتيرة التدهور البيئي.
لا مبالغة بالقول انّ تلوث الهواء يشكل الخطر البيئي الأكبر على الصحة البشرية. وحتمًا لبنان ليس استثناء، وها نحن اليوم ندفع فاتورة اقتصادية واستشفائية مرتفعة الثمن بسبب الأضرار على المستويات كافة، وخاصة على صحة المواطن.
ويذكر تقرير حديث تابع للأمم المتحدة بأنّ أعداد الوفيات الناتجة عن تلوث الهواء ستشهد زيادة تتجاوز الـ50 بالمئة في العام 2050.كما تشير منظمة الصحة العالمية إلى انّ الأمراض السرطانية ستزداد بنسبة 77 بالمئة بحلول العام 2050.
وكانت "الوكالة الدولية لأبحاث السرطان" التابعة لمنظمة الصحة العالمية أشارت سنة 2018 إلى أن لبنان احتل المرتبة الأولى بين دول غربي آسيا، بعدد الإصابات قياسًا بعدد السكان، وأن هناك 242 مصابًا بالسرطان، بين كل 100 ألف لبناني. وللمزيد من التفاصيل حول تلوث الهواء في لبنان في التقرير الآتي.
مراتب متدنية وخطط غير فعالة
يعاني لبنان ما يعانيه من أزمات كثيرة، ومن أهمها خطر تلوث الهواء، وهذا يعود لافتقاره للأسس والاستراتيجيات الفعالة التي تحمي الهواء وتضمن بيئة صالحة للمواطن اللبناني.
وفي هذا الإطار أشارت المستشارة البيئية في برنامج الامم المتحدة الانمائي ووزارة البيئة، الدكتورة منال مسلم، في دراسة خاصة قدمتها ضمن تدريب "التغير المناخي وقضايا البيئة" الذي نظمته مؤسسة مهارات في حزيران الماضي، الى أنّ لبنان احتل المرتبة 124 من أصل 180 دولة بحسب أحدث تقرير صادر عن Yale center for environmental law and policy والذي يقيس مدى التقدم الذي أحرزته الدول في التخفيف من آثار تغير المناخ.
وتشير مسلم في حديث خاص الى انّه لدى لبنان قانون لادارة جودة الهواء صادر في العام 2018 اضافة الى مرسوم صادر في العام 2020، كما يوجد محطات لمراقبة جودة الهواء، "ولكن للأسف تم إغلاقها منذ العام 2019 بسبب نقص التمويل وضعف القدرة على الاستعانة بمصادر خارجية لخدمات التشغيل والصيانة".
وتتابع مسلم فيما يتعلق بالحلول المطلوبة: "يجب اولا اعادة تشغيل شبكة رصد نوعية الهواء أو بشكل عام تطبيق الاستراتيجية الوطنية لحماية نوعية الهواء المقرة في العام 2020، عطفًا على قانون 80\ا2018". ولكن ذلك يحتاج إلى تمويل، وبحسب مسلم: "التمويل يمكن أن يأتي من مصدرين: امّا مباشرة عن طريق الدول المانحة، او عبر حصول لبنان على تعويضات ولو بشكل بسيط عن كل حقوق لبنان البيئية المهدورة".
وفي سياق الحلول المقترحة يشرح الصحافي والكاتب في القضايا البيئية حبيب معلوف أهم أسباب ملوثات الهواء في لبنان، وبعض الحلول التي يمكن اعتمادها للتخفيف من الخطر المباشر للتلوث على المناطق اللبنانية كافة. وبحسب معلوف فانّ قطاعي النقل وإنتاج الطاقة هما أكبر مسبب للتلوث في لبنان إذ يتنافسان على شدة الخطورة. ومؤخرًا تصدر قطاع إنتاج الطاقة الترتيب السلبي لتلوث الهواء، وذلك بسبب زيادة استخدام المولدات في الأحياء السكنية اضافة الى المعامل والمصانع. ويضيف معلوف أسباب أخرى للتلوث منها احتراق النفايات وحرق الغابات من وقت الى آخر.
ويشير معلوف الى انّ "قطاع النقل يُعتبر من أخطر الملوثات خصوصًا في المدن بسبب الانبعاثات الهائلة الخطيرة التي يفرزها"، عازيا السبب بشكل مباشر إلى "مواصفات الوقود غير المحترمة في لبنان" على حد تعبيره.
ويقول معلوف: "يتم استخدام أسوأ أنواع الوقود الذي يحتوي على شوائب خطيرة، خصوصًا في أوقات الأزمات الاقتصادية التي مررنا بها، إذ تستلم مافيات كبرى استيراد الوقود وتوزيعه، وكلما زادت الشوائب بالوقود كلما زادت أرباحهم المالية".
أمّا من ناحية المعالجات فيشير معلوف الى انّه بما يختص بقطاع النقل لا تزال السيارات التي تسير على الطاقة الشمسية أو الكهربائية متواضعة الفعالية من ناحية التخفيف من الانبعاثات. ويقول: "يعود السبب الرئيسي في ذلك الى انّ استخدام هذه السيارات لا يزال بدائي حتى على مستوى العالم أجمع وبطبيعة الحال في لبنان، وبالتالي فانّ تأثيراتها التخفيفية للتلوث متواضعة جدًا. وهذه السيارات مرتفعة الثمن وبالتالي لا يمكن لكل الطبقات في لبنان الحصول عليها وتشغيلها على الطرقات، وحتما لا يمكن الاعتماد عليها للتخفيف من حدة الانبعاثات الخطرة أقله على مستوى المستقبل القريب".
أمّا الحل، فيتابع معلوف: "قلنا ولا نزال انّ الحل الاول والاخير يكمن في النقل العام الذي يخفف من حدة تلوث الهواء بشكل كبير. وللاسف فانّ هذا القطاع غير منظم تاريخيًا، إذ تم إلغاء سكك الحديد بشكل دراماتيكي في لبنان. وكان هذا الإجراء الأهم لتخفيف التلوث وتخفيف من الاعتماد على السيارة الخاصة".
وبحسب معلوف: "ناهيك عن انّ زيادة استخدام السيارة الخاصة يزيد من التلوث بشكل كبير في اوقات الازدحام، فالسيارة في الزحمة تصدر 6 مرات انبعاثات مضاعفة بالمقارنة وهي تسير".
أمّا من ناحية التلوث الناتج عن الطاقة والحلول المقترحة، يقول معلوف: "حتما هناك اليوم الطاقة الشمسية في لبنان وهي جيدة إلى حد كبير، وساهمت في التخفيف من انبعاثات التلوث بشكل محدود خصوصا عندما يتعلق الأمر بالمولدات، ولكن فانّ انتشارها على مستوى لبنان لا يتجاوز العشرين بالمئة وهذا رقم ضعيف جدا. وللاسف لا أتوقع في المستقبل القريب أن تنتشر الطاقة الشمسية بشكل أكبر وذلك لأن تكلفتها على الفرد مرتفعة جدا، ولا يمكن لكل اللبنانيين الحصول عليها".
ويتابع: "أمّا على المستوى الجماعي فلا يوجد معامل كبيرة تعتمد على الطاقة الشمسية ولا مزارع رياح، وهذا يحتاج الى دعم كبير من الوزارات المعنية وهو ما ليس متوفر في لبنان، إذ نأمل أن يتم تطوير استخدام الطاقة على المستوى الجماعي في المستقبل القريب".
يُذكر انّ لبنان في فترة السبعينات كان ينتج الكهرباء من الماء، وبحسب معلوف "في هذه الفترة كان هناك أكثر من 60 بالمئة من طاقة الكهرباء في لبنان يتم إنتاجها من المياه، ولكن هذا القطاع لم يطور بالشكل المطلوب، وبالتالي فانّه وفي سياق الحديث عن الحلول يمكن الرجوع إلى هذه الاستراتيجية وتطويرها من قبل الجهات الرسمية المعنية، ونأمل أن يتم العمل على هذه المعالجات في سياسات الدولة القادمة".
وبالعودة الى سيارة "ليرة" تؤكد مسلّم ضرورة دعم كل المبادرات والاختراعات التي تصب في هذه المصلحة، ومن بينها السيارات الصديقة للبيئة للدور الذي يمكن أن تؤديه في التخفيف من حدة الانبعاثات السامة".
اذًا، وفي ضوء كل ما ذُكر، وامام مجمل الأرقام التي تم عرضها ومدى خطورتها، وفي ظل استمرار ظاهرة التغير المناخي من جهة، وعدم استعداد لبنان للمواجهة من جهة ثانية، فإنه من الضروري دعم هذه المبادرات التي تعتمد على الطاقات البديلة والعمل على سياسات عامة جديّة على المستوى الوطني علّنا نساهم بتخفيف الأضرار الكارثية علينا وعلى الأجيال القادمة.
تم إعداد هذا التقرير ضمن برنامج تدريبي نظمته مؤسسة مهارات حول "الإعلام والتغير المناخي والقضايا البيئية" بالتعاون مع مشروع خدمات الدعم الميداني في الشرق الأوسط (الأردن، لبنان، والعراق) والمنفذ من شركة كووتر انترناشونال، وبتمويل من الشؤون الدولية الكندية. تم نشر هذا التقرير في موقع الأنباء.