Loading...

الإعلام المحلي في زمن الحرب: رأس حربة في الإضاءة على الثغرات ودعم المبادرات

 

مع اشتداد العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان، تحوّلت محافظة عكّار ملاذًا لآلاف العائلات النازحة من الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية. بدأت وفود النازحين تصل منذ الايام بل الساعات الأولى وسط فوضى في تنسيق الإغاثة وغياب شبه تام لمؤسسات الدولة. على الطرقات، وقف متطوعون من الهيئات الأهلية يستقبلون العائلات المرهقة بلافتات الترحيب بينما في المقابل، اكتفت أجهزة الدولة بإجراءات أولية خجولة.

 

باشرت السلطات المحلية الممثلة بالمحافظة بإجراءات المسح وطلب الإحصاءات عن النازحين ومراكز الإيواء وأماكن سكنهم، لكن سرعان ما بدا أن العبء الأكبر وقع على كاهل الأهالي والجمعيات المحلية، فضلا عن العائلات العكارية التي  فتحت بيوتها لاستضافة النازحين.

 

انطلاقًا مما سبق برز في تلك الفترة دور الإعلام في الإضاءة على الثغرات والنواقص في عملية إدارة أزمة النزوح وفتح المجال والهواء للتعريف بالمبادرات الاجتماعية التي كانت حاضرة في عكار والشمال. ومع اعلام مركزي بطبيعته قد لا يكون حاضرًا في كافة جوانب التغطية خاصة في محافظات الأطراف، لعب الإعلام المحلي في عكار دورًا أساسيا في نقل الصورة والحدث بشكل يومي.

 

تُظهر هذه الادوار التي لعبها الإعلام المحلي في ظل النزاع ضرورة تنمية هذا النوع من الإعلام ودعمه من جميع النواحي المادية والقانونية وجعله أداة اعلامية أساسية في المشهد اللبناني.

 

الإعلام المحلي حاضرًا لنقل الصورة

في خضم هذه الأزمة، برز الإعلام المحلي البديل في عكار كعنصر فعّال لسد فراغ المعلومة والتوجيه. فمع بعض النقص في التغطية الوطنية لتفاصيل معاناة النازحين شمالاً، تكفّلت منصّات أهلية مستقلة بإيصال الصوت والصورة. على سبيل المثال، ظهرت منصة سبوت كاست (Spotcast) كمصدر للأخبار الميدانية، مسلّطة الضوء على القضايا الاجتماعية والإنسانية في عكار. وقام صحافيون محلّيون عبر هذه المنصّات بتوثيق الحاجات الفعلية للنازحين يومًا بيوم، من نقص الأغطية في مراكز الإيواء، إلى صعوبة حصول العائلات على مياه الشرب في بعض المدارس التي فتحت أبوابها لهم. هذا الإعلام المحلي البديل لم يكتفِ بنقل المعاناة، بل دعم المبادرات الأهلية عبر التوعية والتنسيق. فمواقع أخباريه محلية وصفحات اجتماعية نشرت نداءات للتبرّع العيني والمادي، مرفقة بأرقام هواتف للمتطوعين والجهات التي تستقبل المساعدات، مما سهّل تنظيم جهود الدعم الشعبي.

 

نجح الإعلام المحلي أيضًا في تنظيم حملات إغاثة محلية من خلال نشر قصص النجاح وتحفيز المزيد من المتطوعين على الانخراط. على سبيل المثال، تعاونت منصة سبوت كاست مع «مؤسسة شمول الاجتماعية» لإطلاق دعوات تبرّع عبر مواقع التواصل، حاثّة الأهالي في عكار على المساهمة بإيواء الأسر النازحة أو دعمها ماديًا. كما ساعدت التغطيات الإعلامية المحلية في فضح أي استغلال أو تقصير، فكانت بمثابة أداة شفافية ومساءلة سلّطت الضغط على البلديات والجهات الرسمية للتحرك. ولولا هذا الإعلام الأهلي اليقظ لربما بقي الكثير من الاحتياجات والتجاوزات في الظل دون معالجة.

 

الإعلام المحلي لم يعمل بمعزل عن باقي مكوّنات المجتمع، بل تلاقى مع جهود الناشطين على الأرض. فقد سارع صحافيون محليون إلى تغطية مبادرات شبابية تقوم بتجهيز مطابخ ميدانية لتوزيع وجبات ساخنة في القرى المضيفة، وواكبوا لحظة بلحظة أنشطة الجمعيات التي أمّنت المساكن للنازحين. هذا الدور الإعلامي التنسيقي عزز الثقة والتكاتف، فالنازح الذي يرى حاجاته منقولة بأمانة عبر منابر قريبة من مجتمعه المضيف، يشعر بأن صوته مسموع وأن أزمته ليست منسيّة. كذلك، وفّر الإعلام المحلي منصة لدحض الشائعات ووقف أي محاولة لـ “شيطنة” النازحين، وواجه الخطاب التحريضي لبعض الجهات عبر تسليط الضوء على قصص التضامن والتآخي، بهذا تحوّل الإعلام المحلي إلى شريك في إدارة الأزمة، ينقل الواقع كما هو، يربط أصحاب الحاجة بأصحاب القدرة، ويرفع مستوى الشفافية والمحاسبة.

 

يقول أحد الصحافيين في عكار: “الإعلام بالنسبة إلنا كان وسيلة بناء مش تهديم بهالأزمة… نقلنا الصورة الحقيقية دعمنا بعضنا وخلّينا صوت الناس يوصل”.

 

تحديات وحلول

يعاني الإعلام المحلي والصحافيين الذين يعملون ضمن مواقع الكترونية مناطقية ومنذ فترة طويلة العديد من التحديات منها المادية لناحية تدني الرواتب التي يتقاضونها ونقص الإمكانيات والتدريبات أسوة بزملائهم. تحديات حاول الصحافيون التغلب عليها في سبيل القيام بدورهم في ظل الحرب الأخيرة.


وفي إطار تغطية الحرب في محافظة عكار، أجرينا مقابلات مع عدد من الصحافيين المحليين الذين نقلوا تجاربهم وأدوارهم في الميدان، ومن بينهم الصحافي أسامة العويد، الذي وصف تجربته بأنها محفوفة بالصعوبات لكنها حملت رسالة إنسانية هامة في إيصال معاناة الأهالي إلى الرأي العام. وأكّد العويد أن دور الإعلام المحلي كان محوريًا في سد فجوة غياب التغطية الرسمية، من خلال نقل الأحداث لحظة بلحظة وتسليط الضوء على الواقع الإنساني.


بدوره الصحافي حمزة عبيد، الذي ركزت أعماله على تغطية أوضاع مراكز النزوح، أوضح أن من أبرز التحديات التي يواجهها الصحافيون المحليون هي غياب الضمانات المهنية المتنوعة، مما يجعل الخروج لتغطية الأحداث مغامرة حقيقية حتى ضمن محافظة عكار، حيث استهدفت إسرائيل مراكز النزوح ومنازل النازحين أكثر من مرة. وأشار عبيد إلى حاجة الصحافيين الملحة للحد الأدنى من الحماية (الصحية والتأمينية) خاصة للصحافيين المستقلين في مناطق الأطراف، وأن يتم الاعتراف بهم من قبل النقابات المعنية، وبناءً على هذه التحديات، أوصى الصحافيون بأهمية تأسيس مراكز دعم مهني للصحافة المحلية، وتوفير تدريبات متخصصة بالتغطية الآمنة أثناء النزاعات، إلى جانب بناء شبكات تواصل مع الإعلام الوطني والدولي لضمان استمرار صوت المناطق المهمشة في الوصول إلى الرأي العام.

 

يمكن القول أن من الدروس المستفادة من تغطية الحرب أن على الجهات الرسمية التواصل الفعّال مع الإعلام خلال الأزمات لضخ المعلومات الدقيقة وتوجيه المواطنين. كذلك ينبغي تمكين الإعلاميين المحليين وإشراكهم في غرف إدارة الكوارث كشركاء لنقل الصورة من الميدان. فخلال أزمة النزوح، أدّى التقصير الإعلامي الرسمي إلى انتشار شائعات ومخاوف في بعض المناطق، قابله الإعلام الأهلي بالحقائق ما عزز الوحدة. لذا، على الدولة أن تعي أن الإعلام ليس خصمًا بل حليفًا يمكن أن يُساهم في تنظيم الجهود وتعزيز الشفافية، وينبغي اعتماد استراتيجية إعلام أزمة مبنية على الصراحة والسرعة والتنسيق مع الإعلام المحلي، ليكون أداة بناء ثقة، وجسر بين الدولة والمجتمع خلال المحن.

 

المبادرات المحلية: دعم الإعلام أساسي

كان للإعلام المحلي خلال الحرب دورًا بارزًا في دعم المبادرات الاجتماعية التي نشطت على الأرض وتظهير دورها ما أدى إلى دفع هذه المبادرات إلى الأمام.

 

وفي إطار تسليط الضوء على دور الإعلام في دعم المبادرات المحلية خلال الأزمات، تحدث الينا كُلً من عثمان طالب من مبادرة “درب عكار” في بلدة مشمش وبشير الرفاعي من مؤسسة “شمول” في بلدة القرقف عن أهمية الإعلام في تفعيل عملهم الإنساني مع النازحين. فأوضح طالب أن التغطية الإعلامية ساهمت بشكل مباشر في توسيع نطاق المبادرة وزيادة التبرعات، مشيرًا إلى أن نشر صور أنشطتهم وتقارير عن توزيع المساعدات جذب دعمًا من متبرعين كانوا خارج البلدة ولم يكونوا على اطلاع مباشر على حجم الأزمة. كما ساهمت التغطية الإعلامية في بناء شبكة علاقات مع جمعيات أخرى أبدت رغبتها في التعاون.

 

من جهته، أكد الرفاعي أن الإعلام المحلي والإعلام البديل أدّيا دورًا حاسمًا في إبراز أهمية مبادراتهم، مشيرًا إلى أن بعض التقارير المصورة التي وثقت أوضاع مراكز النزوح أدت إلى تدخل سريع من منظمات دولية قدمت مساعدات إضافية. ورأى أن التغطية الإعلامية، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي المحلية والمنصات الإخبارية المجتمعية، كانت سببًا رئيسيًا في تحفيز الاستجابة العاجلة لاحتياجات النازحين. وأجمع الطرفان على أن دور الإعلام لا يقتصر فقط على نقل الصورة، بل يشكل رافعة أساسية لاستمرارية المبادرات وتعزيز أثرها الإنساني والاجتماعي، خاصة عبر إبراز قصص النجاح والحاجات المستمرة بطريقة مباشرة ومؤثرة.

 

أهمية الصحافة الإيجابية والبناءة

يتبين مما سبق أن الإعلام عمومًا ومنه الإعلام المحلي قد يساهم ويلعب دورًا إيجابيًا أثناء النزاعات، وحتى أنه قد يؤثر على سير الأحداث من خلال بث روح المواطنة والإلفة بين شرائح المجتمع.

 

وفي مقابلة مع الأكاديمي والباحث في مجال الإعلام والإعلام البديل حسين الشريف، شدد على أهمية دور الصحافة الإيجابية والبناءة خلال الحروب، لا سيما في المناطق المتضررة. وأكد الشريف أن الصحافة في أوقات النزاعات لا ينبغي أن تقتصر على نقل مشاهد الدمار والمعاناة، بل عليها أن تركز أيضًا على إظهار قصص الصمود، المبادرات المجتمعية، والتجارب التي تحافظ على الأمل وتعزز روح التضامن بين الناس.

 

واعتبر أن للصحافة الإيجابية دورًا محوريًا في دعم الاستقرار النفسي والاجتماعي للمتضررين، وتحفيز المجتمع الدولي على تقديم الدعم الإنساني. أما عن سبل تعزيز هذا النوع من الصحافة، فقد دعا الشريف إلى تدريب الإعلاميين على مفاهيم الإعلام البنّاء، وإطلاق منصات إعلامية بديلة تتبنى خطابًا إنسانيًا وتسلط الضوء على الحلول بدلًا من الاكتفاء بتوثيق المآسي، مع ضرورة توفير الدعم المؤسساتي للمبادرات الإعلامية المحلية التي تنشر ثقافة الأمل وسط الأزمات.

 

تم إعداد هذا التقرير ضمن مشروع “إصلاح الإعلام وتعزيز حرية التعبير في لبنان”. موّل الاتحاد الأوروبي هذا التقرير . وتقع المسؤولية عن محتواه حصرًا على عاتق ”مؤسسة مهارات“ وهو لا يعكس بالضرورة آراء الاتحاد الأوروبي. وتم نشر التقرير أيضًا على موقع spotcast.