لم تجد لارا، الفتاة ذات الخمسة عشر ربيعاً، سبيلاً للهروب من أجواء المنزل الضاغطة وتبعات انفصال والديها قبل سنوات، إلا عبر الزواج من شاب تعرّفت إليه عن طريق الصدفة، في خطوة تقدم عليها قاصرات كثيرات وفاقمها الانهيار الاقتصادي الذي يرزح تحته لبنان.
وتقول لارا، التي فضّلت استخدام اسم مستعار، لموقع "مهارات نيوز": "لم تكن حياتي بالسهولة التي يتوقعها كثيرون. انفصل والداي منذ وقت طويل، وبقيت وإخوتي الثلاثة مع والدي الذي تزوج قبل سنوات، ليصبح بعدها لدي أربعة إخوة جدد".
وتوضح "كبُرت العائلة وأوقفني والدي عن التعلّم بحجة أن الإمكانيات قليلة في ظل ازدياد عدد أفراد العائلة وازدياد التكاليف. لم يكن سهلاً عليّ أن أرى الفتيات في مثل سنّي يذهبن إلى المدرسة بينما أمضي وقتي في المنزل في خدمة العائلة".
لم تنجح محاولات والدتها التدخّل لإقناع والدها بضرورة تسجيلها في المدرسة، وحصلت إشكالات عدّة بين الطرفين فاقمت الوضع سوءاً.
في تلك الأثناء، تعرّفت لارا عن طريق الصدفة على شاب، سرعان ما تقدّم لخطبتها. فما كان منها إلا أن وافقت على الفور.
وتقول "أخبرت والدتي بموافقتي، لأنني أودّ أن أرتاح من مسؤولية العائلة. ربما هو الخيار الأنسب لي في وقت خسرت فيه مستقبلي الدراسي بعدما كان حلمي أن أصبح مدرسة لغة عربية".
رغم محاولات والدتها لثنيها عن قرارها، بقيت لارا مصممة على خيارها من دون معارضة والدها، انطلاقاً من أن "مسؤولية شخص أقل حملاً عليّ من مسؤولية عائلة بأكملها"، على حدّ تعبيرها.
لا تختلف تجربة لارا عن تجربة فتيات كثيرات. وتوثق جمعيات خصوصاً في المناطق الريفية والتجمعات الفقيرة ازدياد نسبة الزواج المبكر لدى الفتيات، جراء تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لعائلاتهن، مقابل ارتفاع كلفة التعليم والمواصلات، ما فاقم ظاهرة التسرّب المدرسي.
1.8 مليون طفل
في تقرير أصدرته نهاية 2021 بعنوان "بدايات مظاهر العنف: أطفال يكبرون في كنف أزمات لبنان"، ذكرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) أن "نحو 1.8 مليون طفل في لبنان، أي أكثر من 80 في المئة من الأطفال، يعانون من فقر متعدد الأبعاد بعدما كان العدد نحو 900 ألف طفل عام 2019".
ويواجه هؤلاء وفق المنظمة، "خطر تعرضهم للانتهاكات مثل عمل الأطفال أو تزويج الأطفال بهدف مساعدة أسرهم على تغطية النفقات".
وبات الزواج بالنسبة للعديد من القاصرات الخيار شبه الوحيد، ظناً أنه سيفتح الباب أمام بداية جديدة. لكن الواقع لا يأتي دائماً على قدر الآمال.
بعد أربع سنوات على تسربها المدرسي، تزوجت فرح (17 عاماً) من أول عريس طرق باب منزلهم، على غرار شقيقتيها. لكنها لم تتوقع أن تكون أشهر الزواج الأولى حافة بالمشاكل.
وتقول الفتاة التي فضّلت أيضاً استخدام اسم مستعار لموقع "مهارات نيوز": "بعد خطوبة استمرت 5 أشهر، تزوجت وانتقلت للعيش مع أهل زوجي قبل ثلاثة أشهر، لكن فترة زواجي القصيرة كانت حافلة بمشكلات نتيجة تدخلهم في أدق تفاصيل حياتي".
وتضيف "تركت منزلي الزوجي 5 مرات خلال ثلاثة أشهر. وفي كل مرة عدت فيها إلى منزل عائلتي، تفاجأت بمسارعة والداي إلى الاتصال بزوجي والطلب إليه القدوم لاصطحابي".
"أتمنى الموت"
لا تخفي فرح شعور المرارة. وتوضح "أصبحت أشعر أنني عبء على عائلتي التي تسعى للتخلص مني في كل مرة أعود إليها، وفي الوقت ذاته عبء على زوجي العاجز عن استئجار منزل خاص علّنا ننعم فيه بالخصوصية".
وتتابع بحزن شديد "أنا حقاً أتمنى الموت الآن لكي أنعم بالراحة".
وتعرّف منظمة اليونيسيف" زواج القصر على أنه "أي زواج رسمي أو غير رسمي يجمع طفلا تحت سن 18 عاما بشخص بالغ أو طفل آخر".
ولحظت المنظمة في تقريرها الصادر نهاية العام الماضي، أنّ "الفتيات الصغيرات يواجهن خطر الزواج المبكر سعياً من أسرهن الواقعة في براثن اليأس في الحصول على مهر". وفي الأرقام، ذكرت أن واحدة من كل خمس فتيات سوريات تتراوح أعمارهن بين 15 و19 سنة في لبنان متزوجة.
وتنشط منظمات غير حكومية وجمعيات محلية في مختلف المناطق في التوعية على مخاطر الزواج المبكر، الذي يفرضه الواقع الاقتصادي من جهة، والسلطة الأبوية والموروثات الاجتماعية والدين من جهة أخرى.
في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين، توضح منسّقة البرامج في جمعية نواة سارة مصطفى لموقع "مهارات نيوز"، أن اهتمام جمعيتها بمسألة الزواج المبكر بدأ في العام 2012، بعدما لاحظت ازدياد الظاهرة في صفوف العائلات السورية التي لجأت إلى لبنان نتيجة الأوضاع الاقتصادية السيئة. وعلى وقع أزمة لبنان الاقتصادية منذ العام 2019، ازدادت نسبة الزواج المبكر في صفوف اللاجئات الفلسطينيات في المخيمات.
للعام الثالث على التوالي، تنفذ الجمعية مشروعاً بعنوان "البيت البنفسجي"، تستهدف من خلاله فتيات بين 13 و18 سنة. وتشرح مصطفى "المشروع عبارة عن دار لتعليم الفتيات المتسربات من المدارس، ومن يعانين من ضعف في الدراسة، يسعى إلى تمكينهن من القراءة والكتابة، ودعمهن عبر تنظيم دورات لتعليم الكومبيوتر وإكسابهن مهارات تساعدهن على الانخراط في المجتمع".
على نطاق أوسع، تعمل منظمات مدنية على الضغط لإصدار قوانين من شأنها حماية القاصرات من الزواج المبكر، ومن كافة أشكال العنف والاستغلال.
وأفادت منظمة "كفى" في تقرير أصدرته في آب 2022، تضمّن إحصاءات حول حالات العنف التي ترد على الخط الساخن التابع لها، أن النسب الأعلى للعنف مصدره الزوج، ثم أحد أعضاء العائلة، ثم المحيط.
وأوردت أن العنف العاطفي هو من أعلى معدلات أشكال العنف الذي يمارس على المرأة، يليه العنف البدني، ثم العنف ذات الطابع الاقتصادي، والعنف ذات الطابع الجنسي، والعنف القانوني.
وتوضح المحامية في مركز الدعم التابع للمنظمة فاطمة الحاج لموقع "مهارات نيوز" أن جمعيتها تعمل مع منظمات المجتمع المدني لإقرار قانون لتحديث سن الزواج.
وتقول "نسعى لإقرار القانون الموجود في أدراج مجلس النواب، لحماية للمرأة وتخفيف معدلات العنف الذي يُمارس بحقها". وتتابع "أعددنا مشروع قانون أحوال شخصية موحد، ومن ضمنه رفع سن الزواج وسنطرحه على مجلس النواب".
وعلى غرار منظمات أخرى، تواصل كفى، وفق الحاج، "حملات المناصرة للمطالبة برفع سن الزواج، كما نطالب بإلغاء مفاعيل بعض القوانين التي تبيح تزويج المغتصب من ضحيته".
وتشرح أن لبنان صادق على اتفاقية حقوق الطفل التي تعتبر كل إنسان لم يتجاوز الثامنة عشر من عمره طفلاً. وتضيف "نطالب بإلغاء القوانين الدينية التي تبيح زواج القاصرات وتحديدها بسن 18 سنة أسوة بالقانون المدني الذي يعترف بالأهلية القانونية لمن بلغ 18 عاماً".
ورغم إدراكها أن القوانين لا يمكن أن توفّر لوحدها الحماية، إلا أنها "تشكل رادعاً للمجتمع"، على حدّ قولها.
TAG : ,تزويج الأطفال ,الزواج المبكر ,القاصرات ,الفتيات ,فقر ,التسرّب المدرسي ,انتهاكات ,مخاطر ,عنف ,استغلال