Loading...

الشراء الرضائي في ظلّ الحرب... استثناء قانوني يثير التساؤلات

 

شكّل قانون الشراء العام عند إقراره عام 2021 ودخوله حيّز التنفيذ في تموز 2022 نقلة نوعية في إطار ضبط عمليات الإنفاق العام في لبنان والمُضي قدمًا نحو شفافية مالية أكبر. ويواجه هذا القانون منذ انطلاقته محاولات عديدة للإلتفاف على مواده لتمرير ما أمكن من صفقات شرائية لطالما اعتدنا عليها.

 

في ظل الحرب الدائرة في لبنان والظروف الاستثنائية التي تمُرّ بها البلاد تخرج الأصوات القائلة بضرورة تسريع عمليات الشراء من خلال الذهاب نحو "الصفقات الرضائية" والتي يتيحها القانون في الحالات الطارئة حيث لا تكون أي طريقة شراء أُخرى أسلوبًا عمليًا لمواجهة هذه الحالات. 

 

وفي السياق وجه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بداية شهر تشرين الأول الحالي مُذكّرة الى الجهات الخاضعة لأحكام قانون الشراء العام في موضوع تأمين الحاجات الأساسية في ظل الظروف الاستثنائية. عطفًا على كتاب لهيئة الشراء العام مرفقا به المذكرة رقم ٨ هـ.ش.ع / ٢٠٢٤ تاريخ 2024/09/30 التي فندت المواد القانونية المبررة لهذا النوع من الصفقات، وضرورة تأمين حاجات الإدارة الأساسية والمُلحة ومنها على سبيل المثال لا الحصر(الأدوية والمستلزمات الطبية ومستلزمات الإيواء وشراء المواد الغذائية والمحروقات، رفع الانهيارات إزالة الردم، ترميم البنى التحتية.. في هذه الظروف الإستثنائية) حيث لا يمكن تأمينها باعتماد الطرق العادية التنافسية مع ما تستوجبه من إجراءات إعداد دفاتر الشروط والإعلان عن الشراء والتقييم وإعلان النتيجة وانقضاء فترة التجميد.

 

يناقش هذا التقرير أسئلة عديدة تُطرح في اعتماد هذه الآلية منها مثلًا هل يطبق الشراء بالتراضي على كل أنواع المشتريات، وكيفية تحديد الأولويات، ومدى تأثير هذا النوع من الصفقات على هدر المال العام؟ كما يسلط الضوء على الدور الحقيقي الذي يلعبه ديوان المحاسبة في الرقابة اللاحقة على هذه الصفقات وما هي آلياته التنفيذية.
 

ضوابط الشراء الرضائي

يسمح قانون الشراء العام باعتماد الشراء بواسطة الإتفاقيات الرضائية في الظروف التي تحول دون إجراء مناقصة عمومية أو مزايدة. ويقول قانون الشراء العام في المادة 46 منه في شروط الاتفاق الرضائي أنه يجوز للجهة الشارية أن تَقوم بالشراء بواسطة اتفاق رضائي، وفقاً لأحكام البند السابع من هذا الفصل، في ظروف استثنائية منها: "في حالات الطوارئ والإغاثة من جَرّاء وقوع حدث كارثي وغير مُتَوَقَّع".

 

يُمكّن هذا الاستثناء الإدارات من تأمين الحاجات الاساسية للمواطنين بشكل سريع لكن هذا لا يعفي الجهة الشارية من أن تتأكد أولا من وجود الاعتمادات وأخذ موافقة مراقب عقد النفقات من ثم تتمّ عملية الشراء ويتم الاحتفاظ بالفواتير كاملة لتقديمها إلى ديوان المحاسبة وإجراء الرقابة اللاحقة على عملية الصرف.

 

تشرح خبيرة الشراء العام في معهد باسل فليحان المالي رنا رزق الله فارس أن هذا الأمر موافق للتشريعات العالمية ويسمى بالانكليزية Emergency Procurement. وقد شهد العالم حالات مماثلة خلال جائحة كورونا، وقد استخدمت حكومات حول العالم طريقة الشراء هذه الموجودة في تشريعاتها لشراء الادوية والمستلزمات الطبية، وقد عُرف هذا الأمر ب Procurement for Covid، والحرب تقع تحت هذه الحالة، إذ لا يمكن انتظار الإجراءات في حالات الإغاثة.

 

وبحسب رزق الله عادة ما تُطبّق طريقة Emergency Procurement على حالات معيّنة في كل ما يتعلّق بالشراء، أي مثلا في حالة الحرب تُطبّق على حالات الإغاثة والنزوح، الخ... ويكون ذلك متممًا لخطط ادارة الكوارث التي تضعها الحكومات. وتضيف، "بالتأكيد تحمل هذه الطريقة مخاطر عالية من الاستغلال وايضًا من هدر المال العام، لذلك يخضع هذا النوع من الشراء لرقابة الأجهزة الرقابية، كلٌ بحسب اختصاصه. انما عادة ما تتمّ هذه الرقابة في فترة لاحقة للشراء، وذلك لاستحالة اجرائها قبل أو خلال الشراء. وهنا يأتي دور الاجهزة الرقابية التي يجب أن تتشدد بمراقبة هذه العمليات الشرائية التي تجري تحت هذا البند، مثل الدور الهام جدًا للرقابة اللاحقة لديوان المحاسبة".

 

أي دور رقابي لديوان المحاسبة؟

تُعتبر مهمة ديوان المحاسبة الأساسية السهر على إدارة أموال الدولة والبلديات والمؤسسات العامة التي تديرها الدولة أو البلديات وذلك بمراقبة استعمال هذه الأموال وتحريرها والفصل بصحتها والبت في المعاملات المتعلقة بواردات الموازنة ونفقاتها ومقبوضات الخزينة ومدفوعاتها وجوهر المعاملات التي تعود لها. 

 

وحول دور ديوان المحاسبة خاصة في ظل الظروف الحالية، تقول رئيسة الغرفة الرابعة في ديوان المحاسبة القاضية نيللي أبي يونس لـ"مهارات نيوز: "لا معلومات لدينا في الغرفة عن صفقات رضائية تتم بسبب الحرب حتى الآن". وتضيف أبي يونس أن بعض الإدارات قد تعطلت بسبب الظروف الأمنية مما يحول دون اتباع الإجراءات العادية من مناقصة وخلافه. وعليه فإن قانون الشراء العام يُجيز ضمن الفقرة ٢ من المادة ٤٦ اللجوء إلى الاتفاقات الرضائية في حالة العجلة والضرورة.

 

وتؤكد أبي يونس أن مهلة دراسة المعاملة من قبل الديوان هي مهلة قصيرة إذ يصدر القرار ضمن مهلة ١٠ أيام. ويدرس الديوان المعاملة ويتأكد من قانونيتها ومن توفر الاعتماد، ومدى انطباقها على قانون الشراء العام وعلى القوانين المرعية الاجراء. وتخضع كل صفقات الإنفاق لرقابة الديوان المسبقة (في الظروف الطبيعية أو الاستثنائية) سواءً استدراجات العروض،الاتفاقات الرضائية، مساهمات،مساعدات،عقود الإيجار وغيرها.  

 

وإذا تم السير بمعاملة دون عرضها على رقابة الديوان المسبقة ووصل اخبار بذلك إلى النيابة العامة لدى الديوان فيتم فتح ملف قضائي بذلك، وهو ما حصل مثلاً بالنسبة لاتفاقيات PCR تم عقدها في زمن جائحة كورونا حيث تم التذرع بالوضع القائم وقتها وبالإغلاق، فصدرت قرارات قضائية وتم ملاحقة وزراء وموظفين.

يمكن أيضًا بحسب أبي يونس اكتشاف مخالفات تتعلق بتجزئة صفقات أو بالتهرب من إجراء مناقصة أو التهرب من الرقابة خلال فترة معينة عند دراسة حسابات السنة التي تعود لها تلك الفترة. وبالتالي يُفتح ملف قضائي وتتم الملاحقة شرط عدم سقوط المخالفة بمرور الزمن.

 

بين الشراء الرضائي والشراء بالفاتورة

قد يخلط البعض بين نظامي الشراء بالتراضي والشراء بالفاتورة وهما في الواقع نظامان مختلفان للشراء لكل منهما إجراءاته وشروطه. فطريقة الشراء بالفاتورة هي طريقة مرنة موجودة في جميع الدول ومنها لبنان وتُستخدم لشراء الأمور ذات القيمة المتدنية (law value Procurement).  

 

وبحسب المادة 47 من قانون الشراء العام يجوز للجهة الشارية أن تقوم بالشراء بالفاتورة وِفقًا للبند السادس من هذا الفصل، إذا كانت القيمة الـمقدَّرة لمشروع الشراء، بما فيه الخدمات الاستشارية، لا تتجاوز سقفًا مالياً محدَّدًا(كان السقف المالي 100 مليون ليرة عام 2021، وعُدّل لـ 500 مليون ليرة لبنانية عام 2023 وأصبح اليوم 1.5 مليار ليرة بعد تعديله مؤخرًا بمرسوم عن مجلس الوزراء رقمه 14063). 

 

ويُعدَّل هذا السقف الـمالي بناءً على توصية من هيئة الشراء العام وبموجب مرسوم يُتَّخذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح رئيسه، على ألّا يؤدي التعديل إلى مخالفة أهداف هذه الـمادة والـمبادئ التي كرّسها هذا القانون. 

 

وفي الآلية وبحسب المادة 60 تَطلب الجهة الشارية عروض الأسعار من أكبر عدد ممكن عمليًا من المورِّدين أو المقاولين، على ألاَّ يقلّ عددهم عن عرضَين. ويبلَّغ كل مورِّد أو مقاول يُطلَب منه عرض أسعار بما إذا كان يجب أن تُدرَج في السعر أيّ عناصر أخرى غير تكاليف الشيء موضوع الشراء نفسه، مثل أيّ نفقات نقل وتأمين ورسوم جمركية وضرائب تنطبق على ذلك. ويكون عرض الأسعار الفائز هو العرض الأدنى سعرًا الذي يفي باحتياجات الجهة الشارية كما هو محدَّد في طلب عرض الأسعار(المادة 61).

 

بينما الشراء بطريقة التعاقد الرضائي هو شراء يتم بين الجهة الشارية والمُورّد وهي عملية ليس لها سقف مالي بل شروط معيّنة إذا توافرت يمكن اتمام هذا النوع من الشراء، ومن هذه الشروط بالإضافة إلى حالات الطوارئ والإغاثة التي ذكرناها سابقا هناك أسباب مثل: عدم توفُّر موضوع الشراء إلّا عند مورِّد أو مقاول واحد، عند شراء لوازم أو خدمات أو عند تنفيذ أشغال تستوجب الـمحافظة على طابعها السري من أجل مقتضيات الأمن أو الدفاع الوطني، عند التعاقد مع أشخاص القانون العام كالـمؤسسات العامة والبلديات أو المنظمات الدوليّة، وعند التعاقد مع المستشفيات والمراكز الطبية والمختبرات.

 

يمكن القول بعد ما سبق ذكره أن الشراء الرضائي هو عملية يجب ضبطها ومراقبتها بدقة وباستمرار من قبل الجهات المختصة كي لا يتحول هذا "الاستثناء المفيد" والذي تكفله وتنتهجه دول العالم لتسريع عمليات شرائها في الظروف الصعبة كالحروب إلى ثغرة يمكن الولوج منها لتمرير صفقات "من تحت الطاولة" تهدر المال العام أكثر فأكثر.