Loading...

الحرب وغياب المعلومة الرسمية: صحافيون واجهوا السردية الإسرائيلية

 

لم تكن التغطية الإعلامية خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان بالأمر السهل، ويُدرك ذلك كل من شارك بتغطية يوميات الحرب من الصحافيين اللبنانيين والأجانب على الأراضي اللبنانية. فإلى جانب المخاطر الأمنية اليومية المترتبة على وجود عدوّ مجرم لم يتوان عن قتل زملاء لنا خلال تأدية واجباتهم، كانت هناك صعوبات بالوصول إلى المعلومات من الجانب اللبناني، وغياب كامل للرواية الرسمية اللبنانية. فمصدر الأخبار في الجنوب كان بشكل أساسي "إعلام العدو الإسرائيلي"، وهذا ما يخلق إشكالية كبيرة في كيفية الموازنة بين تقديم المعلومة للجمهور وعدم الإنجرار خلف السردية الإسرائيلية، خصوصاً أن الإعلام الإسرائيلي يعمل وفق رؤية ورغبات وضوابط المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، وبالتالي فهو أيضاً لا يقدم الحقيقة بل ما يُريد العدو تقديمه فقط.

 

مواجهة السردية الإسرائيلية
لم يكن عمل ناهد يوسف، مراسلة قناة "العربية" في لبنان، سهلاً خلال الحرب، فالحفاظ على الحياة كان أولوية وهو من الصعوبات الأولى التي واجهت عمل الصحافيين. تقول يوسف لـ"المدن": "إلى جانب الحفاظ على الحياة، واجهنا صعوبات في الوصول للمعلومة الصحيحة خصوصاً عندما تكثر التصريحات والبيانات الإسرائيلية، مقابل صمت الدولة اللبنانية وحزب الله أيضاً".

وتُشير يوسف إلى أن الموازنة بين إيصال المعلومة الصحيحة ورفض الإنجرار خلف السردية الإسرائيلية كان يؤدي إلى تأخير نشر المعلومات، فبعد كل استهداف أو اغتيال كانت إسرائيل تُصدر بياناً، وفي المقابل لا بيانات من جهة لبنان، "وكان المطلوب منا كصحافيين البحث والتدقيق بغية إيجاد المعلومة".


لا تختلف حال محمد زناتي، المراسل والمصور الذي ترك بصمته في تغطية الحرب الإسرائيلية على لبنان، وكان يعمل "فريلانس" لأكثر من مؤسسة، عن حال زميلته ناهد يوسف لناحية صعوبة الوصول إلى المعلومة في ظل غياب الرواية الرسمية، باستثناء وزارة الصحة التي، خلال الفترة الأخيرة من الحرب، أصدرت بيانات عن أعداد الإصابات. ويقول محمد لـ"المدن": "كان عملنا بمجهود شخصي وكان تحدياً أن نقدم المعلومة من دون تبني الرواية الإسرائيلية".


ثلاث مراحل
بالنسبة إلى آمال خليل، المراسلة الميدانية والكاتبة في صحيفة "الأخبار" اللبنانية، فإن الحرب على لبنان وتغطيتها تنقسم إلى ثلاثة مراحل. المرحلة الأولى من 8 تشرين الأول 2023 حتى 22 أيلول 2024، والثانية من 23 أيلول حتى 28 تشرين الثاني، والثالثة من لحظة وقف إطلاق النار.

وتقول: "خلال المرحلة الأولى كانت التغطية مباشرة في كل القرى الجنوبية، وبنهايتها كثرت التهديدات الإسرائيلية المباشرة لي، وآخر تهديد كان قبل تكثيف العدوان في أيلول بيومين، وخلال هذه المرحلة لم أكن بحاجة للسردية الإسرائيلية لأن خلفية عملي في الجنوب وشبكة العلاقات التي بنيتها منذ العام 2006 حتى اليوم، ساعدتني لأواجه السردية الإسرائيلية وأثبت كذبها". وهو ما عادت خليل لفعله اليوم أيضاً في المرحلة الثالثة، إذ عادت إلى الخطوط الأمامية لكشف زيف سرديات العدو، ومنها مؤخراً أنه بقي في 5 نقاط بينما الواقع هو إقامته لمنطقة عازلة تم توثيقها بالكاميرا.


أما المرحلة الثانية فكانت الأصعب، وتؤكد خليل أن الجميع في بعض الأحيان اضطر لنشر بعض الأخبار الإسرائيلية أو الصور، خصوصاً أن العدو امتلك حصرية الصور في مناطق معينة، لكن هذا الأمر كان محدوداً بالنسبة لصحيفة "الأخبار". تضيف: "في هذه المرحلة كنا نعاني في مسألة تدقيق المعلومة، وحاولنا أن نُجري التقاطع بين مصادرنا، لكن الأهم أننا لم نصدق ما يصدر عن العدو بل سعينا لكشف زيف الحرب الإعلامية التي مارسها العدو خلال الحرب".


جهد كبير لحيازة المعلومة

المراسل الميداني في قناة "lbci"، إدمون ساسين، يقول بدوره لـ"المدن" أن مرحلة ما بعد 23 أيلول شهدت صعوبات كبيرة لعمل الصحافيين، اضطررنا لبذل جهد كبير جداً للحصول على المعلومة، بعدما كنا نؤمنها بسهولة قبل ذلك من خلال المصادر التي تبدأ من المواطن العادي وتصل إلى المصادر العسكرية والأمنية.
 
ويضيف: "في مرحلة بدء التوغل، فرغت القرى الأمامية من الجميع، حتى الجيش، وعندها كنا نستمع للرواية الإسرائيلية ونحاول مقاطعة ما يصلنا لتأكيد معلومة أو نفيها، وفي هذا السياق مثلاً عندما نشر العدو فيديو أسير لبناني، وبعد تأكدي من الخبر، حاولت مواجهة الضغط الإسرائيلي والسردية التي يُريد فرضها على المجتمع اللبناني من خلال القول أن وقوع أسير خلال الحرب هو أمر طبيعي، ولا يقدم مؤشرات حول من انتصر ومن هُزم، وبالتالي حاولت التخفيف من وطأة الحرب الإعلامية".

 


الاعتماد على الذات
في سياق الحلول لأزمة غياب الرواية الرسمية، قرر زناتي إطلاق مجموعة "واتسآب" سماها "التنسيق الإعلامي". وهذه المجموعة التي تضم صحافيين وإعلاميين ومواطنين مارسوا عملاً صحافياً بحكم وجودهم في قرى معينة في الجنوب والبقاع، استطاعت أن تكون "المصدر اللبناني للأخبار"، ومن خلالها تمت مقاطعة المعلومات والمصادر بغية الوصول إلى الخبر الصحيح، وفعلاً أدت المجموعة -ولا تزال حتى اليوم- دوراً محورياً في تقديم المعلومة لغالبية الوسائل الإعلامية في لبنان وخارج لبنان.
 
بدورها تُشير ناهد يوسف إلى أن التعويض كان يتم من خلال الاعتماد على النفس، فنحن كصحافيين لم نأخذ بالبيانات الإسرائيلية قبل التواصل مع مصادرنا الأمنية والعسكرية، ومحاولة مقاطعة المعلومة مع بعض الزملاء المتواجدين على الأرض في الجنوب أيضاً، بسبب صعوبة التنقل خلال الحرب، إذ كان من شبه المستحيل علينا الوصول إلى أمكنة الإستهداف.

من جهتها كانت آمال خليل مصدراً للمعلومات في الجنوب، وتُشير في هذا السياق إلى أنها كانت، بفعل ما سبق وذكرته من علاقات وشبكات ومصادر، "مرتكزاً للتدقيق في المعلومة"، معتبرة أنها من خلال عملها على الأخبار العاجلة اكتسبت مصداقية، ما يعني أن جهودها وعملها في الجنوب منذ سنوات وعلاقاتها بالناس، بالجمعيات والبلديات، بالمؤسسات العسكرية واليونيفيل، عوضت الغياب الرسمي للمعلومة والخبر.

وبما أن الهدف تقديم مصلحة لبنان واللبنانيين على ما عداها، ومحاولة الإعلام القيام بدوره في هذا الإطار رغم التحديات المذكورة، يقول ساسين: "كان العدو يخوض حرباً نفسية من خلال رسائل التهديد التي تصل إلى هواتف لبنانيين في مراكز النزوح، وفي هذا الملف قررت العمل بالتنسيق مع الأجهزة لتخفيف حجم هذه الحرب وقمنا بزيارات للمدارس وتقديم التوضيحات للناس حول الرسائل وكيف تُرسل". 

رقابة ذاتية
"لا حياد مع العدو الإسرائيلي"، تجزم خليل، مشيرة إلى أن هوية المؤسسة حيث تعمل، والتي تتوافق مع قناعاتها، تجعل "الرقابة" محدودة، فليس المطلوب رقابة ذاتية بقدر ما المطلوب "مصداقية"، خصوصاً أن جرائم العدو بشعة وضخمة بما يكفي ولا حاجة للتلاعب بها على سبيل المثال.
 
بدوره يُشير الزناتي إلى ممارسته رقابة ذاتية، كما العديد من زملائه، على نوع الخبر وهل يخدم المصلحة أم يضر بها، وما هي المصلحة من الخبر؟ ويضيف: "نحن في معركة والإعلام جزء منها، ولا يمكن تحت عنوان حرية الإعلام أن نعرض حياة الناس للخطر أو نكشف عن مراكز أو نُفشي أسراراً تضر بالأمن الوطني، لذلك كنا نعمل ضمن الخطوط العريضة للمؤسسات، وفي الوقت نفسه ضمن ضوابط عدم المساس أو الضرر بالمصلحة الوطنية".
 


من جهتها، تؤكد يوسفك "كان هناك صراع بين أن نصل للمعلومة أو نتبنى الرواية الإسرائيلية، خصوصاً بعدما ثبُت خلال حرب غزة أن ادعاءات العدو لا تكون صحيحة دائماً، لذلك كان القرار أن نوازن وندقق ونبحث قبل نشر الخبر. وتقول: "حتى عبر مؤسساتنا الاعلامية كان التوجه واضحاً وهو ضرورة التروي للوصول للخبر الصحيح من دون التسرع في نشر الأخبار من مصدر واحد"، وهذا نوع من أنواع الرقابة الذاتية.


المعلومة الرسمية وجهود الصحافي

من خلال تجارب الزملاء الموجزة أعلاه، وتجارب من لم نكتب عنهم، يتبين أن المعلومة الرسمية مطلوبة ومهمة في زمن الحروب، ولو كانت لكل حرب طبيعتها ومتطلباتها، لكنها تبقى ضرورة لتزويد الصحافيين بالحدّ الأدنى المطلوب لمواجهة السردية الإعلامية الإسرائيلية. لكن يتبين أيضاً أن الأهم هو جهد الصحافي في البحث عن المعلومة وبناء شبكة مصادر تساعده في التميز في أداء واجبه المهني، على أن يكون الأساس "مصلحة بلده ووطنه"، فهذه المصلحة تغلب ما عداها خلال الحروب.
 
تم إعداد هذا التقرير ضمن مشروع "إصلاح الإعلام وتعزيز حرية التعبير في لبنان". موّل الاتحاد الأوروبي هذا التقرير . وتقع المسؤولية عن محتواه حصرًا على عاتق "مؤسسة مهارات"، وهو لا يعكس بالضرورة آراء الاتحاد الأوروبي. وتم نشر هذا التقرير أيضًا على موقع المدن.