يقبع لبنان في المرتبة 150 من أصل 180 دولة من بين الدول الأكثر فساداً عالمياً، وفي المرتبة الخامسة بين دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بحسب مؤشر مدركات الفساد (CPI) للعام 2022 الصادر عن منظمة الشفافية العالمية.
هذا الواقع لا يعزّزه إقرار سلّة من قوانين مكافحة الفساد كانت بدأت مع إقرار قانون حق الوصول إلى المعلومات في العام 2017، قانون حماية كاشفي الفساد الذي أُقرّ في العام 2018، قانون التصريح عن الذمة المالية في العام 2020، قانون الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في العام 2020 أيضاً، وقانون استرداد الأموال المتأتية عن جرائم الفساد الذي أُقرّ في العام 2021.
وبالتالي، بات هناك مجموعة من القوانين التي تشكل منظومة قانونية يمكن من خلالها حماية الأموال العامة من الفساد والهدر، تشكل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد رأس الحربة فيها. لذلك، تعمل العديد من الجهات الدولية لتفعيل دور هذه الهيئة على الرغم من التحديات التي تواجهها. حيث يحاول كلّ من برنامج الأمم المتحدة الانمائي UNDP والإتحاد الأوروبي الدفع باتجاه تفعيل عمل الهيئة وتخطيها للتحديات التي تواجهها من خلال تضمينها كأولوية في مجموعات عمل الإدارة المالية العامة، الخدمة المدنية، إصلاح الإدارة العامة ومكافحة الفساد التي تعمل ضمن إطار الإصلاح و التعافي وإعادة الإعمار في لبنان "3RF".
تحديات أساسية
لم ينطلق بعد عمل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد فعلياً في كل الصلاحيات المناطة بها، بسبب عدم توقيع مجلس شورى الدولة على نظامها الداخلي بعد والذي مضى أشهر على تقديمه. بل يقتصر عملها على تلقّي تصاريح الذمّة المالية من العاملين في القطاع العام السياسي والإداري (من رئيس الجمهورية إلى موظف الفئة الثالثة) في بداية الولاية ضمن مدة شهرين، والتدقيق في مدى صحتها ومقارنتها. كما وتلقي الشكاوى حول عدم التزام أي جهة إدارية أو دستورية تنفيذ قانون حق الوصول إلى المعلومات وإصدار تقارير تُرسل إلى رئاسة الحكومة حول مدى إلتزام أو مخالفة هذه الجهات للقانون، إضافة إلى تأمين الحماية والحوافز لكاشفي الفساد.
وفي هذا الإطار، أكّد رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد القاضي كلود كرم في حديث لـ "مهارات نيوز"، أن الهيئة حضّرت مشروع النظام الداخلي ومشروع آخر لمدونة السلوك الإلزامية، وتمّ إرسال المشروعين لمجلس شورى الدولة للحصول على الموافقة عليهما قبل أن تقوم الهيئة بإقرارهما، لأن النظام الداخلي في المؤسسات الرسمية يُقر عادةً إما بقانون أو بمرسوم يُتخذ في مجلس الوزراء، ولكن تسهيلاً لسير العمل يمكن لمجلس الهيئة المؤلف من ستة أشخاص إقرار النظام الداخلي والمالي، ولكن بعد موافقة مجلس شورى الدولة.
ولفت كرم، إلى أن النظام الداخلي قد تمّ إرساله إلى مجلس شورى الدولة ضمن المهلة المحددة بالقانون وهي ثلاثة أشهر، "ولكن إلى الآن لم نحصل بعد على الموافقة النهائية، لأن مجلس شورى الدولة رأى أنه يجب أخذ موافقة مجلس الخدمة المدنية ووزارة المالية قبل إعطاء الموافقة على النظام الداخلي للهيئة".
وبالتالي، عدم إقرار النظام الداخلي أدّى وفق كرم، إلى تأخير تشكيل الجهاز الإداري للهيئة، ولكن بالرغم من ذلك وإنطلاقاً من الوضوح في قانون الهيئة رقم 175، باشرت عملها خصوصاً فيما يخصّ الأمور المرتبطة بمهل معينة مثل تصاريح الذمّة المالية من المسؤولين العامين المنصوص عليه في القانون رقم 2020/189، علماً أن عدد الملزمين بالتصريح يناهز العشرة آلاف تقريباً.
"عشرة مليارات ليرة الميزانية المرصودة للهيئة للعام 2022، تسلّمت منها الهيئة ستة مليارات فقط لتصريف أمورها وهو مبلغ لم يعد يساوي شيئاً" بحسب كرم، في ظلّ الأزمة الإقتصادية التي يشهدها البلد اليوم، قائلاً "لولا دعم الجهات المانحة لا نستطيع إنجاز شيء".
وفي السياق، اعتبرت مديرة مشروع "مكافحة الفساد من أجل تعزيز الثقة بلبنان" من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ناتاشا سركيس في حديث لـ "مهارات نيوز"، أن "التنسيق لتنفيذ استراتيجية مكافحة الفساد ليس من مهام الهيئة، وبالتالي هناك خوف من ضياع دور الهيئة واستهلاكها في عملية التنسيق بين الجهات الحكومية كافة لمكافحة الفساد، فيما من المفترض على الحكومة اللبنانية أن تقوم بهذا الدور، من خلال التنسيق بين كل الجهات من مجلس النواب الى هيئة مكافحة الفساد وصولاً إلى كافة الأجهزة الرقابية من أجل تشكيل منظومة مُحكَمة لمكافحة الفساد".
عمل مستمر بدعم دولي
ومن خلال تقرير اعدته الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) حول احتياجاتها وخطة عملها السنوية 2023- 2024، يتضح ماذا الذي يمكن للهيئة القيام به وفق التحديات التي تواجهها بشكل واقعي.
وكانت الهيئة قد أنجزت تقريرها السنوي وهو مقسّم حسب المطلوب بقانون حق الوصول إلى المعلومات، يتضمن إنجازات الهيئة خلال السنة المنصرمة، نشاطاتها، قطع الحساب والتحديات التي تواجهها.
وتمّ إطلاق الخطة السنوية خلال ورشة عمل استراتيجية بعنوان "تفعيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد: الاحتياجات والتحديات والفرص". ركزت على إيجاد سبل تعزيز عمل الهيئة، خاصة في ظلّ الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الحالية في لبنان.
وتحدث كرم عن مبنى الهيئة مركز وزارة الثقافة سابقاً، الذي يتمّ العمل على تأهيله حالياً بدعم من الجهات المانحة خصوصاً الإتحاد الأوروبي، Expertise France ،UNDP ،UNODC، البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، ومجموعة من السفارات الداعمة مثل السفارتين الدنماركية والكورية.
وفي التفاصيل، أوضح أن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) يعمل حالياً على تجهيز قاعة اجتماعات مزودة بكافة التجهيزات للمؤتمرات وورش التدريب للموظفين لتعزيز كفاءتهم وقدرات الهيئة وجهازها الإداري. كما ويتمّ العمل على تجهيز طابق لحفظ كل تصاريح الذمّة المالية الموجودة حالياً في مصرف لبنان، وتنظيم مكتب لتلقي كشوفات الفساد وإنشاء موقع ونظام أرشفة إلكتروني. كما وتعمل الـ UNDP على تجهيز المقرّ بنظام الطاقة الشمسية.
كذلك، أنجزت الهيئة خطة التواصل التي تشمل الترويج ورفع الوعي حول كافة مهام الهيئة والإضاءة على دورها بما يتماشى مع القدرات التي تتمتع بها حالياً. إضافة إلى كيفية استقبال شكاوى المواطنين حول تطبيق قانون الحق في الوصول إلى المعلومات، حيث بدأت الهيئة منذ شهر تقريبًا بإستقبال هذه الشكاوى.
الممارسات الفضلى لمكافحة الفساد
لا بدّ من الاعتراف بأن الهيئة الوطنية في طور التأسيس، لأن الهيئات المماثلة في بعض دول العالم يتطلب تأسيسها عدة سنوات، وبالتالي يجب أن نكون واقعيين في مطالبنا تجاه هذه الهيئة التي تواجه صعوبات عدة. وبالرغم من هذه الصعوبات بدأت الهيئة العمل بما يتعلق بالتدقيق بتصاريح الذمّة المالية وبعض طلبات الحصول على المعلومات.
ولفتت سركيس خلال حديث لـ "مهارات نيوز" إلى أن الممارسات الفضلى لعمل الهيئات حول العالم، تكون "أولاً بوضع أهداف واقعية يمكن تحقيقها وفقاً للوقت والإمكانيات المتاحة، وثانياً بأن يكون للهيئة دور محدّد وصلاحيات محددة وأن لا تكون جهة تنفيذية، وثالثاً أن لا تكون مسؤولة عن استراتيجية مكافحة الفساد بالكامل لأنه عمل تنسيقي بين كافة الجهات وليس مسؤولية الهيئة فقط".
وأضافت أن قانون التصريح بالذمة المالية والإثراء غير المشروع هو من القوانين المهمّة التي للهيئة دور كبير بتنفيذه، كما ولا يقتصر دورها على تلقي التصريح فقط، وإنما التدقيق في صحة هذه التصاريح، لافتةً إلى ضرورة "بناء قدرات الهيئة بما يتعلق بكيفية التدقيق بصحة تقارير الذمّة المالية بشكل علمي وتقني".
ومن مهام الهيئة الأساسية استقبال شكاوى المواطنين حول تطبيق قانون حق الوصول للمعلومات، وهي وفق سركيس "لا تمتلك حالياً الامكانيات الكافية للتعامل مع هذا الموضوع، ولكن دورها مهم جداً لناحية إصدار تقارير دورية عن مدى تطبيق هذا القانون من قبل المؤسسات العامة والرسمية، مما يساعد بتشكيل نوع من الضغط على هذه المؤسسات".
عرقلة عمل الصحافة الاستقصائية
ويؤكد الصحافي ادمون ساسين في حديث لـ "مهارت نيوز"، أن "قانون حق الوصول إلى المعلومات من أهم القوانين التي تساعد الصحافي الاستقصائي، ولكن هذا القانون يعاني من ناحية التطبيق العملي، حيث لا تتعاون الكثير من الإدارات والمؤسسات الرسمية والبلديات على مستوى تقديم المعلومات".
وقدّم مثالاً عن أزمة الخبز التي حصلت سابقاً، ووزارة الاقتصاد التي لم تقدّم حتى الآن المعلومات تفسر طوابير المواطنين للحصول على الخبز من الأفران.
والمؤسف بحسب ساسين بعد تشكيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، التي أصبحت المرجع الصالح للبت برفض بعض الوزارات والمؤسسات العامة التجاوب مع تقديم طلبات المعلومات، أن الهيئة تعاني من عدة تحديات أبرزها عدم إقرار نظامها الداخلي في مجلس شورى الدولة وعدم امتلاك الهيئة لكادر من الموظفين لأداء المهام. لافتاً إلى أن "تشكيل الهيئة من دون القيام بدورها في الدفع لتطبيق قانون حق الوصول للمعلومات يشكل تحدياً كبيراً للصحافيين الاستقصائيين للقيام بدورهم في المساءلة وكشف الهدر والفساد، كما حصل عند محاولة إجبار وزارة الاقتصاد الرد على طلبات المعلومات التي تمّ تقديمها حول أزمة الخبز، وعندها لجأنا إلى قضاء العجلة الذي أكّد أن لا صلاحية له بعد تشكيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد".
والمشكلة نفسها تكررت مع وزارة الطاقة وفق ساسين، عندما تمّ تقديم طلب معلومات حول سدّ مسيلحة، ويقول "بعد عدم قدرة الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد على أداء عملها ذهبنا إلى مجلس شورى الدولة، الذي بتّ في الشكوى في سابقة لكل الصحافيين والناشطين، كون الجهاز الإداري للهيئة غير مشكّل بعد".
يُذكر أن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بدأت باستقبال شكاوى المواطنين حول تطبيق قانون حق الوصول إلى المعلومات بعد هذه الحادثة.
وفي المحصلة، هناك قانون يستطيع من خلاله الصحافي الحصول على المعلومات التي تساعده في المساءلة، ولكن من الناحية التطبيقية ما من تعاون من الوزارات والهيئات الرسمية، ومن هنا تأتي أهمية تنظيم ورش وممارسة ضغط من الجهات الدولية ومنظمات المجتمع المدني بهدف توعية المؤسسات الرسمية لتطبيق قانون حق الوصول إلى المعلومات ومساعدة الصحافيين في عملهم لمحاربة الفساد وتحقيق الصالح العام وكشف الهدر واسترداد المال العام.